الفرق بين نصرة الأفغان في حربهم ضد السوفيات في ثمانينات القرن الماضي ونصرة العراقيين - مثلا ً- ضد الاحتلال الأميركي واضح لا لبس فيه، ففي الأولى كان الإذن من ولي الأمر الذي قدّم إضافة إلى ذلك كل التسهيلات للراغبين في «جهاد» الغازي، أما في الثانية فإنه لم يأذن. لماذا أذن في الأولى وقدّم الدعم السخي وقتها ولم يأذن في الثانية، فإن ذلك يخضع إلى الاعتبارات السياسية البحتة، التي يضعها صاحب الولاية الشرعية نصب عينيه في تقرير مصلحة بلاده خصوصاً والمصلحة العامة في شكل أعم، فالنبي محمد عليه الصلاة والسلام غزا قريشاً في معركة بدر في السنة الثانية من الهجرة، بينما صالحهم في العام السادس منها على شروط بدت حينها مجحفة عند أكابر الصحابة، ومن بينهم الخليفة الثاني وأحد أعظم قادة المسلمين على مرّ التاريخ عمر بن الخطاب، الذي قال للنبي: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ فقال النبي: بلى، قال عمر: فلِمَ نعطِ الدنية في ديننا؟ وقد كان من بين شروط ذلك الصلح: أن يرد المسلمون من يأتيهم من قريش مسلماً من دون إذن وليه، وألا ترد قريش من يعود إليها من المسلمين. في جانب آخر، وفي سياق متصل بالسياسة التي تقدر الأمور بحسب مقاديرها، كان موقف النبي مخالفاً للموقف الإنساني الذي تغلب عليه الطبيعة البشرية التي تأبى الانهزام، فقد كان أهل المدينة في استقبال خالد بن الوليد ومن بقي معه من جيش غزوة مؤتة الشهيرة، وأخذوا يحثون عليهم التراب ويقولون لهم يا فُرار فررتم في سبيل الله، فيما قال النبي: «ما هم بالفُرار ولكنهم الكُرار إن شاء الله»، بالمناسبة، في تلك الغزوة لقب النبي خالداً، أو قائد الجيش «المنسحب» بسيف الله المسلول، وسمى النبي ما قام به ابن الوليد فتحاً، إذ قال - والنص من البخاري - مخبراً بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم». ما أود قوله هنا، أن السياسة الحكيمة التي تدير «مصالح» الدول لا يمكن أن تخضع بأي حال لمعيار الحمية والمزاج ولا إلى الهوى.
قبل أيام عرضت قناة «العربية» برنامجاً استقصائياً حول الآثار النفسية العالقة في قلوب شباب تم التغرير بهم، من قبل أشخاص يرفعون نبرة الحماسة في كل وقت تواجه الأمة فيه الانتكاسات، برغبة ظاهرية مفادها شحذ الهمم دفاعاً عن المضطهدين، ورغبة أخرى خفية لا تغيب عنها المصلحة الفئوية المقيتة، تعلي بلا هوادة شعارات التخوين والتشكيك واتهام الحكومات بالتخاذل والعمالة كلما سنحت لها فرصة! القناة التي يجتمع على خصومتها نقيضان في الظاهر، هما «حزب الله» الذي كان زعيمه أول من أطلق عليها مسمى «العبرية» في رد فعله على مواقفها منه التي لم تتبدل منذ نشأتها بخلاف مثيلاتها، وحزب الإخوان المسلمين، اللذان يتفقان في الباطن على العداء للدول العربية، والرغبة الصادقة في تدميرها كل بحسب مصلحته، حملت لواء حساب المحرضين، ومعها المخلصون من رواد شبكات التواصل الاجتماعي، الذين كان دورهم فاعلاً في كشف زيف ادعاءات المخبثين، الذين حشدوا الأتباع في سبيل أهدافهم البعيدة في حقيقتها عن الانتصار للمظلومين، كيف لا وهم من أجج ظلمهم، وأوقد النيران التي بها احترقت آمالهم، عندما صوّروا لهم أن تحت الركام المتناثر يكمن البناء، وفي حين يقول نبينا: «لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من أن يراق دم مسلم»، كان سدنة الخراب يتشدقون بأن سحق الجماجم وتقطيع الأشلاء شرف للمسلمين! ولم يكتفوا بذلك، بل إنهم رموا اللائمة على من أطاعهم وصدقهم، مذكرين بالآية: (كل نفس بما كسبت رهينة)، في مشهد وصف الله لنا شبيهه على لسان إبليس، إذ يقول يوم القيامة لمن اتبعه: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)!
ختاماً، ليس في المقام متسع لذكر ما يهنأ به أولئك المغرضون وأبناؤهم من نعيم الدنيا الذي صدعوا رؤوسنا في التحريض على خلافه، ولا إلى ذكر ما انتهت إليه حال دول أضحى مآلها أطلال بلاد وبقاياها كان صدّق أهلها خبث نياتهم، لكن هذا المقام لا ينبغي له تفويت فرصة القول بأن صلاحية المهادنة وطول البال قد حان أوان نهايتها، فما دون البلاد والعباد إلا كف أذى هؤلاء المؤلِّبين القادحين في الذمم.
فيصل العساف- الحياة السعودية-