اتجهت الصحوة إلى اصطياد كثير ممن لم يستطع إكمال تعليمه، وأولئك الذين لم تكتمل إجراءات أوراقهم الثبوتية، ليوقعوا بهم، مستغلين بخبث الحالات النفسية المتردية لهذه الفئة المغلوبة على أمرها قبل سنوات كثيرة حاول بعض الصحويين الذين لم يكونوا يدركون أصلا مشروع الصحوة الكبير، جرِّي إلى فريقهم، ولم أكن أدرك أنا ذلك أيضا، بحكم طبيعة تكويننا القروي من جهة، وطريقة تربيتنا التي ابتعدت كثيرا عن مشاريع الأدلجة وانتهازيتها.
القصة التي أوردها اليوم، لم أكن لأصدقها لو أنني لم أعش تفاصيلها ولحظاتها أولا بأول، أو لم أرها واقعا على الأرض أمامي، فالضغط الرهيب الذي كان يتعرض له المجتمع بأسره، جعلها تظهر إلى الواجهة كأهم حراك، أخذ صبغة الرضا والقبول الاجتماعي عبر صورة الدين.
لكن ذلك جعل الصحوة محل شك عند بعض الراشدين، وأزعم أن والدي –رحمة الله عليه- كان أحدهم، فقد كان يشاهد بعض أصدقائي الملتحين الذين يعرفهم قبل إطلاق لحاهم وتغير هيأتهم، ويعرف شخصياتهم عن قرب، ويقول لي "يا ابني أصحابك أمرهم غريب"، كان يعرف والدي ما لم أكن أعرفه في تلك الفترة المرتبكة من عمري، كنت قد تخرجت من الثانوية عام 1408 للهجرة، وهو العام الذي تلته كثير من الأحداث الدراماتيكية سياسية ومجتمعية وفكرية وثقافية، لامتداد فكر الصحوة.
تخرج معي أصدقاء كثر في تلك المرحلة، ذهب كثير منهم إلى الجامعات المتفرقة، وبعضهم لم يحصل على الفرصة، لكن جميعهم تلقفتهم الصحوة بفكرها الانتهازي، على اختلاف توجهاتهم ومدارسهم ومستوياتهم الفكرية والدراسية والاجتماعية، وأجزم أن ما سمي بالصحوة، كان أذكى حرباء متلونة، وأخبث برنامج دعوي وتحرك بانتهازية على الإطلاق.
كل الطرق التي سلكها جيلي، وجد فيها تلك الحركة الدينية التي وقفت خلفها مآرب لم تكن نزيهة أو بريئة أبدا، فقد سيطرت الصحوة بأذرعها الأخطبوطية على أهم منافذ ومواقع الاتصال مع المجتمع، ووطدت علاقتها مع الشارع تحت مظلة الدين، بينما في الواقع لم تصنع أكثر من الدروشة والدراويش، كأكبر وأهم منجزاتها.
أيامها، لم تكن تحتاج إلى أكثر من الانضمام إلى قطعان ومجاميع الصحوة، لتحصل على دعم القائمين عبر مبلغ مالي، يصل إلى 1000 ريال، مقابل أن تؤذن في مساجد يختارونها لك، أو تخطب الجمعة بالناس –حتى لو كنت قليل علم- إن كنت معوزا، لتحصل في فترة قياسية على لقب "شيخ"، وبعض "المشألات"؛ ما شاء الله هداه الله إلى الطريق الصواب، وما إليها، وكأنه كان ضالا قبيح الأخلاق، ما شاء الله أصبح شيخا تهابه الجن، ما شاء الله أصبح عالما في الدين متبحرا، وهكذا. وتحت ضغط قادة الصحوة، رضخ كثير من مهزوزي الشخصية، أو أصحاب الحاجة والعوز، وقد وقفت على كثير من تلك الحالات على اختلافها وتنوع أوضاعها، فضعيف الشخصية، ذلك الذي لا يحظى باحترام وتقدير كبير بين أقرانه أو في محيطه الاجتماعي، وهو في الغالب محل سخرية، وجد في الانخراط بالصحوة طريقا ميسرة للحصول على اللقب القريب، وتقدير المجتمع المحيط، فأن تحفظ عددا من آيات القرآن، وبعض الأحاديث، وكم فتوى لرموز بعينهم، وتتقيد باللبس المتعارف عليه -هو اللباس الذي لا أدري من قرر أنه النموذج الصحيح لرسم شخصية المسلم السوي المهتدي!- سيمنحك الشارع لقب "شيخ".
على الجانب الآخر، اتجهت الصحوة إلى اصطياد كثير ممن لم يستطع إكمال تعليمه، وأولئك الذين لم تكتمل إجراءات أوراقهم الثبوتية، ليوقعوا بهم، مستغلين بخبث الحالات النفسية المتردية لهذه الفئة المغلوبة على أمرها، قليلة الحيلة والخيارات الاجتماعية، وقد وجدوا في الصحوة متنفسا وهميا واسعا بالنسبة لهم، لكنها في واقع الأمر لم تكن أكثر من مخدرٍ وقح، تلاعب بإنسانيتهم وجندهم لتحقيق أهدافه، ثم قذف بمن قذف منهم إلى المجهول، وما زال بعضهم يعيش حالة الضياع إلى يومنا هذا، وهو أمر متوقع على أية حال، كنتيجة حتمية لأية فكر مُضلِل وانتهازي.
اليوم ما زالت بعض الأفكار تُمارس وتُنفذ بالطريقة نفسها وعلى الشرائح نفسها، يتصيد بها المتصيدون، وتبقى أهدافهم التي تحمل الصفات السابقة نفسها -ضعاف الشخصية، والمعوزين المحتاجين- ومن تقطعت بهم سبل الحصول على الهوية.
صالح الديواني- الوطن السعودية-