لدي اليوم بضعة أفكار تصعب قولبتها في فكرة واحدة أو تطويعها لنخرج منها جميعا بعنوان رئيسي واحد وحيد. ومع هذا سأكون واضحا مباشرا وصريحا أيضا إن كتبت: إنها الدائرة الضيقة لفقه "الحنابلة". هي تلك الدائرة التي ضجت صخبا بعد ظهور فضيلة الشيخ صالح المغامسي في برنامج "بالمختصر"، لأنها رأت في جملة واحدة من حديثه خروجا مكشوفا عن هذه الدائرة الضيقة. دعونا نكون أكثر مكاشفة: الحنابلة هم أقل المذاهب الأربعة أتباعا وسكانا مثلما هم أيضا ينتشرون في الجزء الأكثر جفافا وتصحرا في خارطة هذا العالم الإسلامي، ولعله لهذا السبب نجدهم أكثر تحفظا مع الفنون والإبداع الإنساني الذي استودعه الخالق في خلقه بالفطرة.
دعونا نكتب الأمثلة للدلالة والتقريب بدلا من الاستغراق في النظرية: كنت قبل سنين طويلة بصحبة شيخ سعودي "حنبلي" فاضل في مدينة لندن عندما طلب العشاء شرقيا خالصا، فأخذناه إلى "Green street" في شرق المدينة حيث الكثافة السكانية الساحقة إسلامية خالصة. كان فضيلته ممتعضا من الحضور الطاغي للمرأة في كل مفاصل الاقتصاد الذي شاهده ذلك المساء مثلما كان متحفظا على شكل اللبس ونوع الحجاب. قلت له مازحا وأيضا جادا إن مشكلة "الحنابلة" هي الدائرة الضيقة التي ترى إمكانية تعميم أنموذج "بديعة" الرياض على "ويستهام" لندن، وطبجية أبها على "السان دونيه" الباريسية، أتذكر جوابه حين قال لي: هؤلاء "مذهبهم وسيع"، وبالطبع قد لا يدرك فضيلة الشيخ أن الجيوب المسلمة في ضواحي المدن الغربية طيف هائل من خليط الأحناف والمالكية والشافعية. وبكل صراحة: لم يستطع الحنابلة اختراق هذه التكتلات الإسلامية لأن العالم الفقيه الحنبلي نشأ وتعلم في بيئة يمكن القول إن المادة والمال فيها يستطيعان أن يجعلا من المرأة مجرد تحفة منزلية، ومثلما قال "أحدهم" في مقطع شهير "يكفي للمرأة مئتا أو أربعمئة ريال في الشهر، ولها أن تكتفي من التعبد بخدمة زوجها والقيام على راحته..". هو لا يعلم أنه بهذا القول قد حولها إلى رقيق مستعبد.
والخلاصة الأهم أننا دائما ما نتحدث بمزح وهزل عن (المذهب الوسيع) دون أن نلتفت للنقيض في "المذهب الضيق". في الدائرة الحنبلية يمكن للمرأة وبفضل بيئة الوفرة المالية أن تنام في سريرها حتى الزمن الفاصل ما بين الظهر والعصر، لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك في القاهرة وروالبندي وحقول بنجلاديش ومزارع الزيتون في الضفة الغربية وسهول تونس. نصف "قاطفات" البرتقال في هضبة الأناضول المسلمة الخالصة من النساء اللواتي يذهبن لهذه الحقول حتى قبل صلاة الفجر من أجل لقمة العيش، فماذا سيقول لهم فضيلة الشيخ "الحنبلي" الذي يشرب عصير البرتقال طازجا باردا بقطع الثلج مع حرمه المصون من يد عاملة آسيوية مسلمة قبل الذهاب منتصف المساء لغرفة النوم. انتهت المساحة.
علي سعد الموسى-