منذ بداية فكرة جماعة «الاخوان المسلمين» عند المؤسس الإمام حسن البنا، رحمه الله، في عشرينيات القرن الماضي، *وكانت فكرة «شمولية الاسلام» هي النقطة المركزية التي عمل لها البنا وكانت كل تحركاته وافكاره تدور حولها. وشمولية الاسلام تعني ان دين الاسلام كما عرفه الامام في الاصول العشرين (الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق قوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء)*.
وهذا الفهم للاسلام حسب ما طرحه البنا كان مستغرباً ومزعجاً منذ بداية طرح الفكرة عند فئات عديدة، منها التيار العلماني والتغريبي في كل مكوناته، وكذلك التيارات الصوفية والسلفية والازهر الشريف في واقعه المرير، *وجوهر فكرة الشمولية هي وجود رأي ديني للعمل السياسي في ادارة الدولة والاقتصاد والعلاقات الدولية وغير ذلك من الأعمال «الحساسة» في واقع حياة الناس*.
ان فكرة شمولية الاسلام بالغة الخطورة لمن يريد دولة بلا حدود شرعية ولا حرية ولا مواجهة مع الغرب وأعداء الاسلام، *فتطبيق الشريعة بهذه الفكرة الشمولية هي سبب الأزمة الكبرى عند بعض الحكومات في الدول الاسلامية والشخصيات المتنفذة والغرب والدول الكبرى فوق كل ذلك...!*، الى هذه الدرجة تكمن خطورة الشمولية! فأقول نعم الى هذا المستوى، ولذلك فإن هذه الفكرة اليوم لم تنحصر في جماعة معينة أو شخصيات معينة بل توسعت وأصبحت ركيزة كبيرة عند تيارات اسلامية عدة وشخصيات لم ترتبط بفكرة «الاخوان» ولم تتلمذ على رموزهم وربما لا تعرف أي أمر عن البنا.
وطرح هذه الفكرة بطريقة متوازنة مثلما يحصل عند اغلب التيارات الاسلامية، أمر مزعج للنخب والدول التى أشرت لها سابقا *ولا ننخدع بأن بعض هذه النخب والدول تتعامل وتحتاج هذه التيارات الشمولية الوسطية لفترة من الزمن حسب مصالحها وتنخدع هذه التيارات حسب «خيالها الوردي» الطيب بصدق نية هؤلاء، فهي تتعامل معهم موقتا ولكن لا يغير هذا الامر من حقدها ورغبتها في التخلص من هذه التيارات وتجفيف منابعها*. ولذلك يتعجب بعض من يرصد لهذه التيارات كيف تحارب بعض هذه النخب والدول التيارات الشمولية الوسطية وهي تحارب معهم التطرف وتنشر الوسطية ولا تعاديهم بالسلاح والعنف!
والجواب ان هذه التيارات والشخصيات التي تحمل فكرة الشمولية للاسلام في طرحها الوسطي تعطل مصالحهم في اقصاء الشريعة الحقيقية الشمولية وأدوار الدول الكبرى التي تسيطر على العالم وتحتله بطريق غير مباشر!
ان هذه الملامح تؤدي بنا الى عدم الثقة في النخب العلمانية والدول في التنازل على الفكر الشمولي الاسلامي بحجة تغيير الطرح ووجود آلية توافقية، فهناك فرق كبير بين التعايش والسياسة بفن الممكن مع التنازل عن المبادئ وهذا ما حصل وما ظهر من تطورات في خطاب بعض الرموز الاسلامية والجماعات في ترديد عبارة «تركتا الاسلام السياسي» فلا يوجد شيء اسمه «الاسلام السياسي» بل «السياسة الاسلامية». فالعلمانيون طرحوا عبارة «الاسلام السياسي» وقصدوا بها ابعاد السياسة عن الاسلام، واستعمال العبارة التي يستعملها التيار العلماني هو تنازل كبير عن الهوية الأساسية للفكر الاسلامي الشمولي خصوصاً فكر «الاخوان».*
لذلك وجدنا لأول مرة المدح والثناء الكبير لهؤلاء وأحزابهم من أشد غلاة التيار العلماني، لأن ما صرحوا به هو غاية ما تؤمن به هذه الخصوم لدور الاسلاميين، ولن أصل للتشكيك بهم وتحجيم تاريخهم، فهذا الأمر لا قدرة لي عليه ولا طاقة فكل تقديري لهم وتاريخهم *ولكنهم احسنوا الظن كثيراً بالتيار العلماني والدول وأحب ان يقدم تيار اسلامي بلا «شمولية»! بحجة التوافق «الوهمي» و«التخصصية» وهذه هزيمة شديدة وتضحية بالتاريخ والفكرة وان لم يقصدوا ذلك*، وان قاس بعض الناس على تجربة تركيا، فهذا قياس باطل لأن حزب الرئيس رجب طيب اوردغان تأسس بوضوح على العلمانية ولكن يحاول محاولات اسلامية يشكر عليها.
لا أقلل من أخطاء التيار الاسلامي ورموزه وسلبياتهم في اقامة المشروع الاسلامي *ولكن هذا الأمر لا يجعلنا نقدم تنازلات فكرية من أجل رضا من لم ولن يصدق نوايانا وأعمالنا الطيبة*. ولعل ما أكتبه يتبين عكسه في المستقبل، ولكن رأيي أننا مهما تعاملنا وتوافقنا مع خصوم الفكر فلن يهبونا وسام الصدق والتعاون اذا تنازلنا لهم وتنازلنا الكبير عن أهم شعاراتنا ومبادئنا... يعني إلغاء ما كان التيار الاسلامي يضحي ويجاهد من أجله.
محمد عبدالله المطر- الراي الكويتية-