توزّع العالم العربي «القديم» على «سنيَّتين» كبيرتين تصدّرت السعودية المحافِظة منهما، و «شيعية» واحدة. لم يكن هذا التوزيع سكونياً يوماً. دائماً اخترقته ديناميات بينيّة أعادت تعريف جهاته وخلط مكوّناته كمحطات «حلف بغداد» والناصرية ولاحقاً صعود حركات المقاومة.
قبل «الربيع العربي»، كانت السعودية نظاماً عربياً تقليدياً يجاهد ليحافظ على ما تبقّى له من شرعية شعبية إزاء مواقفه الباهتة من ملفات تمحور حولها الوعي العربي – السني تقليدياً. كان متداولاً الاستحسان الذي يحظى به خطاب الجهادية – السنية، بالإضافة إلى مساهمة وسائل التواصل الاجتماعي في تعرية رجعية النظام وفضح أخبار بعض الأمراء الذين تتنافس أماكن اللهو العالمية على استقطابهم. حينها، شكّل الصدع الطائفي مجرد سردية هروبية للنظر إلى الاستقطابات من بين عدد آخر من السرديات مثل القومية والموقف من الغرب والقضية الفلسطينية والإسلام السياسي وغيرها. ما حدث لاحقاً اختصر الصدوع بصدع كبير هو الصدع الطائفي، ومنح النظام السعودي شرعية داخلية وإقليمية لا سابق لهما.
شكلت إعادة تعريف العالم العربي بالإشكالية الطائفية موتاً محققاً للديناميات البينية بين السنيّتيَن اللتين التصقتا في فاعلية سنية واحدة مقابل شيعية اكتشفت للتوّ أقلويتها. الحديث يطول عن الصمغ الذي أمكن معه تحييد الأسئلة القومية والفلسطينية والسلفية عموماً. الثابت أن لا مصلحة جليّة للأقلوي باستنفار هويته القديمة، لأن حصيلة الفرز تحيله على نسبته الإسلامية الخُمسية بعدما احتفظ سابقاً بنسبة لا بأس بها من الشارع المقابل على حساب «السنية التقليدية». من النافل أن المنطقة تقيم الآن في هويتها الطائفية عملياً، فقد خبا الخطاب الذي يأخذ بيد الشارع لإعادة اكتشاف الأسئلة الصحيّة والمصلحية بعيداً عن الطوائفية النكوصية، التي صادرتها واختصرت حيوية الواقع بالماهوية التي لا فكاك منها.
ربما بالغت إيران في تقدير كفاءاتها الخطابية العابرة للطوائف. في المقابل، بدا أن السعودية أقرب إلى تشخيص فاعلية الخطاب الطائفي بوصفه المحدّد الأساس للانحيازات الشعبية، وهي توسّلته بكثافة ونجاعة. كيف السبيل إلى جعل السعودية «أقل سنية»؟ الجواب الأقرب يكمن بجعل إيران «أقل شيعية». لكن هذا ما حاولته إيران سابقاً، أولاً مع «الحالة» الإخوانية ولاحقاً مع الأنظمة العربية خارج حقل التأثير الخليجي، ولا يبدو أنها نجحت في إحداث اختراق يُعتدّ به، لأن لا طاقة أو إرادة لهؤلاء على تبني سياسات خارج المزاج الشعبي غير المحصّن. في مطلق الأحوال، الراهن يشي بمقابلات ذات شكل طائفي ومضمون سياسي.
ربما حان الوقت لابتكار سياسات لا تتطفل على الواقع من عالم المثل، ولا تكوي المعطيات بمقولات جوهرانية. من الثابت أنه لا أفق خروج واضح للمَدَنية العربية على السنية أو الشيعية في السياق العربي في المدى المنظور. عندها، يصاب سؤال الانتصار في سوريا بالضمور ليحل محلّه استفسار عن الجهة التي تستطيع أن تحتمل هزيمة «السنية ـ الإقليمية»؟ لا ينبغي لأحد أن يفكّر بالانتصار على الكثرة. يجب أن يتوقف أقصى طموحه على تفادي الهزيمة. الانتصار عليها هو استدعاء لمعارك مقبلة.
أيمن عقيل-