الاعتراف بالتقصير لا ينقص من قيمة العمل والجهود والنوايا المسبقة التي حاولت بعض الجهات والأفراد بذلها لمكافحة التطرف وقصص الإرهاب التي تتوالى على مجتمعنا من وقت لآخر، ولكن النوايا الجيدة وحدها لا تكفي، ولا التنظير يجدي مع القصص التي تقض مضجع سكينتنا ونتفاعل معها عدة أيام أو أسابيع ثم ننسى حتى نفيق على واقعة أخرى أشد ألما.
أتباع الجماعات المتطرفة منذ سنوات القاعدة وحتى سرطان داعش تمادى خبثهم ليصل للوالدين بعد قتل أنفسهم وقتل غير المسلمين وأبناء المذاهب الأخرى ورجال الأمن. بعد الجريمة البشعة التي قتل فيهما توأمان داعشيان والدتهما المسنة وحاولا قتل والدهما وشقيقهما؛ تعالى تبادل التهم بين كثير من الأطراف حول المتسبب في مثل هذه الجريمة، وأصبح كل طرف يشير بأصبعه جهرا أو خفية نحو طرف آخر، ونحن بهذا التصرف نمارس حيلة نفسية، فقط نزيح بها وقع الصدمة عن أنفسنا بنفي التهم عن أنفسنا وعن الإطار الجمعي والفكري الذي نحسب أنفسنا ننتمي إليه.
إن المشكلة أخطر والمصيبة أعظم من أن نتهرب منها بتبادل التهم ومحاولات التجييش أو سرد أدلة البراءة أو الإدانة، هؤلاء أبناؤنا وهم نتاجنا وبين أيدينا حتى اللحظة التي تجردوا فيها من إنسانيتهم ودينهم وانتمائهم، ومدوا يد الغدر نحو أوطانهم وشركائهم فيه، ونحو أقاربهم وذويهم وصدر من كانوا سببا في وجودهم. لنتساءل بصدق وتجرد عما دفع هذين الداعشيين، وجميع الإرهابيين السابقين، كيف سُلبت إنسانيتهم حتى أصبح القتل لديهم مبررا؟ وكيف هانت عليهم روابط الأسرة فصار الخلاص منها هدفهم؟ وأين ما تربوا عليه في المنزل والمدرسة والمسجد من دين يعظم حرمة عقوق الوالدين وحرمة دماء البشر كافة؟ وما المبررات التي أقنعوا بها أنفسهم قبل استباحة دماء ضحاياهم دون مبالاة؟
القرار اليوم لوضع حل جذري لظاهرة التطرف التي تقود لمثل هذا الإرهاب يجب أن يكون بقرار ومتابعة من القيادات العليا ومشاركة جميع الوزارات، ومختلف فئات المجتمع وعناصره، لدراسة هذه الحالة دراسة علمية متعمقة، تبحث عن الأسباب وتضع الحلول وترسم التوقعات الشفافة لقادم الأيام. ما زلنا نقول إن الأسرة والتعليم هما اللبنتان الأوليان في حياة كل فرد، اللتان تشكلان النواة الأولى لوعيه وتعزز قيمه أو تنزعها عنه، ونعلم جميعا أن الدافع الذي حرك هذين التوأمين الداعشيين وحرك قبلهما أصحاب الفتن في مختلف الجماعات هو دافع ديني نابع من فهم مغلوط يقوم على ضرورة الجهاد في سبيل الله ومعاداة الآخرين غير المتفقين معهم في هذا الهدف، أو في معايير أخرى تشبع بها الجيل الحالي من خلال ذويهم ومدارسهم وبعض منابرنا الإعلامية، وبات حلم الخلافة والعودة لزمن الصحابة هاجس من يفقد قيمته في الحياة، ويحاول أن يثبت قدرته عبر هذا المبرر الذي من خلاله يخلق لها اعتبارا وهدفا وقوة زائفة.
على كل أب وأم ومربٍّ أن يتوقفوا قليلا للتفكير في أبنائهم، كيف قاموا بتربيتهم؟ وما مدى قربهم منهم، خاصة في سنين مراهقتهم واحتياجهم الكبير فيها لمشاعر الاحترام والاهتمام والمحبة؟ وهل حصنوهم بما يكفي من قيم إنسانية تعزز فيهم التسامح والتصالح مع الآخرين المختلفين عنهم؟ التي ستساعدهم على فهم مجريات الأمور حولهم وترفع من وعيهم مبكرا في حال ترصدتهم أي يد خائنة وعابثة.
وهنا أدعو المسؤولين في وزارة التعليم إلى أن يعيدوا قراءة مناهج التعليم في المملكة ويحصوا كم مرة وردت فيها عبارة "الجهاد في سبيل الله"، ويخبرونا ما المبرر لوجود مثل هذا الهدف ضمن سياستنا التعليمية للنشء في مثل هذا الزمن، وهذا الوقت الذي تخوض فيه الدولة حربا شرسة مع أصحاب الفتن والأطماع السياسية ومع وجود الصراعات الدامية في دول الجوار؟ وأن تتبنى طرائق جديدة مختلفة كليا في التعليم تقوم على التفكير المنطقي والفلسفي، وتخرج من رتابة التلقين وقصص تمجيد الموت وكراهية الغير، وتعزز قيم المواطنة وتقديم مصالح الوطن وحمايته قبل أي شيء.
المسؤولية اليوم تطال كل فرد منا، ولو بقينا نحاول إثبات براءتنا وإلقاء التهم على من نظنه متسببا في مثل هذا سنبقى ندور في ذات الحلقة المفرغة التي نتوقف عن الركض فيها فجأة، حينما نصحو فزعين من بشاعة جريمة جديدة، ثم نواصل الركض مذعورين نردد ذات الكلام الذي لم يقدم نفعا. القفز على هذه الحادثة بتبريرات غير منطقية سيكون كمحاولة تغطية جرح عفن لن يلبث حتى يلتهب مرة أخرى، وقد يكون سببا في بتر يد أو ساق كانت ستسهم في بناء هذا الوطن بدلا من محاولة هدمه.
عبير العلي- الوطن السعودية-