كان أحد أهم عوامل انتشار مذهب أهل السنة في العالم الإسلامي تعدد المذاهب والمدارس الفقهية، وكان المسلم له أن يتعبد الله عز وجل بتقليد أحد أئمة الفقه المشهورين أو غير المشهورين، وكانت المدارس الفقهية تتواجد في المدينة الواحدة، ويقبل الناس تعدُّدَ المذاهب وحرية اختيار المذهب الفقهي، بل إن التيارات العقدية تتواجد بمختلف توجهاتها في بغداد على سبيل المثال، فكان هناك المعتزلي والحنبلي والأشعري والشيعي وغيرهم.
يختلف المؤرخون في كيفية وصول المذهب الحنبلي إلى وسط الجزيرة العربية، وقد تكون النقلة الفعلية للمذهب في القرن السابع الهجري، وذلك عندما ترددت أسماء علماء نجديين في أواسط مجالس علمية في دمشق، وكان بداية انتشارها بين العامة في بعض مناطقها، وفي أواخر القرن السابع الهجري وبداية القرن الثامن من الهجرة، برز اسم شيخ الإسلام ابن تيمية، ويرجح اتصال علماء من نجد به، وأخذ إجازات علمية عالية منه، لنشر مذهبه في نجد، وذلك حسب الدراسات التاريخية الموثقة.
وبرغم من ذلك لم يتأثر مبدأ تعدد واختلاف المذاهب الفقهية في أواسط الجزيرة العربية، فقد كان المذهب المالكي له أتباع كثر في منطقتي الخرج والأحساء، وقد ذكر ابن بسام أن الغالب على أهل الخرج مذهب الإمام مالك بن أنس، وقال الدكتور عبدالحميد مبارك: إن المذهب السائد في نجد هو مذهب الإمام مالك بن أنس، فهو مساو لمذهب أحمد بن حنبل في النصف الشمالي من نجد، أما النصف الجنوبي فالغالب عليه مذهب الإمام مالك.
ويذكر التاريخ أن الشيخ راشد بن محمد بن رشيد بن خنين العائذي نسباً، الحنفي مذهباً، والخرجي موطناً، كان علاَّمة الخرج وقاضيها في زمنه، وقال عنه البسام ( أدرك في العلوم الشرعية وصار من كبار فقهاء المذهب الحنفي، واشتهر في قطره بالعلم والاطلاع، وقد ولي قضاء الدلم في فترات متقطعة ما بين 1162هـ إلى سنة 1200هـ، وكان ذلك قريباً من وفاة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
وهو ما يدل أن تعدد المذاهب الفقهية في نجد أثناء حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله كان أمراً طبيعياً مثل بقية الأمصار الإسلامية، وهو ما يطرح الأسئلة عن زمن فرض المنهج الحنبلي والتيموي وإقصاء المذاهب الفقهية الأخرى، ولماذا تم طرح اجتهادات الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وفتاوى شيخ الإسلام على أنهما المصدر للعلوم الشرعية، ولماذا تم إقصاء مذهبي مالك وأبي حنيفة، واللذيْن يعدان من أكثر المذاهب الفقهية انتشاراً في العالم الإسلامي.
يرى الإمام مالك بن أنس أن الخلافات الفقهية بين الأئمة رحمة بالأمة؛ لأن المسلم مخيَّرٌ في العمل بالأيسر منها، كما تعد المرجعيات القانونية في التاريخ الإمام أبو حنيفة المؤسس الأهم في منهج التشريع الإسلامي، فقد كان عالماً فذاً وفقيهاً نابغة، وكان أحد دعاة التسامح في تاريخ المسلمين.
كان التغيير عندما بدأت المدارس والكليات الشرعية في البلاد في الاعتماد فقط على نهج الإمام أحمد وفتاوى شيخ الإسلام، وإيقاف تدريس مذاهب المالكية والحنفية والشافعية على أنهم أحد وجوه الفقه الإسلامي الصحيح، وكان ذلك مدخلاً لتأسيس المنهج الأحادي، والذي يرى في اجتهادات المذهب الحنبلي، وفتاوى الشيخ الموقف الإسلامي القطعي، ومن خلال هذا العقل ربما انسلت ذهنية التطرف، فالقطعية بالرأي الواحد كانت إيذاناً بالابتعاد عن سمتي التعددية والتسامح، والتي امتاز بهما المنهج السني إن صح التعبير في الماضي. جاء قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز - رحمه الله - بإعادة تشكيل هيئة كبار العلماء لتصحيح المسار في الطريق نحو تقنين الشريعة، وذلك باعتماده ممثلين عن المذاهب الأربعة السنية الشهيرة في هيئة كبار العلماء.، وكأنه كذلك يحاول أن يعيد التاريخ إلى فترات كانت فيه التعددية الفقهية أمراً مقبولاً وإيجابياً..
لكن أحادية العقل في المدارس والكليات الشرعية مستمرة، والتي لا تزال تدرس المنهج الحنبلي والتيموي على أنهما الفهم الصحيح الوحيد للإسلام الحق، بينما تتسع مدارك الدين الحنيف لمختلف المدارس الفقهية، وذلك أولاً رحمة بالعالمين، وثانياً لتعليم النشء وطلبة العلم أن للحق وجوهاً مختلفة، وأن تَعدُّد الرأي في الفقه، وفي المسألة الواحدة أمراً محموداً بين المسلمين، وفيه أيضاً علاجٌ شافٍ للأحادية المفرطة والتطرف، والله الموفق
عبدالعزيز السماري- الجزيرة السعودية-