أثناء حادثة احتلال الحرم المكي خالجتني مشاعر الخوف والفرح في آن واحد. الخوف من الحادثة المفزعة، والفرح بأنني لم أكن معهم في إحدى صلوات الجمعة في حي المنيرة بالظهران سنة 1979، وهو العام الأول في التحاقي بشركة أرامكو، قام أحد الأشخاص بعد الصلاة وألقى موعظة جميلة ومؤثرة مختلفة عن سائر المواعظ التقليدية. كانت الموعظة تمتاز بسرد القصص والتعليقات المثيرة والطرائف وهو ما شد انتباه الجميع، وخاصة من كان في عمري آنذاك، مراهق لم يتجاوز الـ16عاما. سمعت حديثاً عذباً مرصعاً ببلاغة فائقة ومحيا باسم وتواضع مهيب وبساطة لا متناهية. بعد انقضاء حديث الواعظ قام شخص آخر معقباً بأننا، كمسلمين، دعاة إلى الله صغاراً وكباراً، ونريد من الحضور ممارسة عمل الدعوة العظيم الذي هو عمل الأنبياء عليهم السلام.
استمر التشويق والتحريض لغرض تسجيل الأسماء للذهاب نهاية الأسبوع في رحلة جماعية دعوية. حينها، كان الناس متأثرين غاية التأثير ومقبلين على تلك الموعظة، الأمر الذي دعا الكثير إلى الاستجابة وتدوين أسمائهم. وفي خضم مشهد التدافع للتسجيل، ما كان مني إلا أن سجلت اسمي أيضاً، وشجعت صديقي "جمعان" على ذلك كي نحظى بصحبة هؤلاء الأخيار.
لم أكن أميز حينذاك إن كان من دونوا أسماءهم من نفس الجماعة على غرار "بيع النجش" أو من غيرهم. كنت حينها متحمساً، خاصة أنني أريد تلبية ما أوصاني به الوالدان من الاستقامة والعمل الصالح كشرط لإذنهم لي بترك الدراسة والالتحاق بعمل خارج المنطقة في تلك المرحلة المبكرة من العمر. خرجت من المسجد والفرحة لا تسعني باحثاً عن صديقي أبارك له الفرصة العظيمة بأن وُفقنا إلى الصلاة في هذا المسجد لنلتقي بالجماعة الطيبة المباركة، ونتدرب على عمل الأنبياء عليهم السلام. شاركني جمعان تلك المشاعر واستمر حديثنا حول هذا الموضوع ونحن باتجاه "الميز" لتناول الغداء، مررنا بـ"الكانتين" في الكامب لشراء بعض المقاضي. وأمام مبنى 131 ودعت صديقي، وقبل أن يتجه جمعان صوب مبنى سكنه المجاور 132 ذكرته بموعد خروجنا مع الجماعة. قال لي: "من جدك أنت"؟ قلت نعم. قال: "انس الموضوع بلا جماعة بلا هم". قلت: وتسجيلنا ووعدنا للناس؟ قال: كأنك لم ترهم ولم يروك. "ورانا دراسة وشركة وشغل". ولكون جمعان يكبرني قليلاً ولا أستطيع الذهاب وحدي، فقد صرفت النظر عن تلك الرحلة. وما هي إلا بضعة أشهر حتى جاء الخبر المدوي عن جماعة تحتل الحرم وتقاتل فيه وتغلق الأبواب على من بداخله وتتواجه مع الحكومة.
فزعنا من الخبر، خاصة أنه جاء مع بداية إعلان قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بزعامة الخميني. ظن الناس، ابتداءً، أنه احتلال إيراني للحرم، إذ لا يُصدق أحداً البتة أن يقوم "مطاوعة" بفعل هذه الجريمة. جاءني جمعان في ساحة "مركز التدريب" وقال لي: تذكر الجماعة التي سجلنا معها في المسجد؟ قلت نعم؟ قال: هم من احتل الحرم! أذكر أنني شهقت وأصابني رعب وهلع لا أنساه. معقول يا جمعان؟! لكن الناس تقول إيران؟!
خالجتني مشاعر الخوف والفرح في آن واحد. الخوف من الحادثة المفزعة، والفرح بأنني لم أكن معهم. ثم جاءت خاطرة أقلقتني وأفسدت أيامي طوال السنة، وهي أن اسمي مسجل في كشوفاتهم. كنت أُسرّ إلى جمعان عن قلقي هذا فيهمس "اسكت لا أحد يسمعك". لكن يستدرك صديقي "بس احنا ما مشينا معهم". مجرد تسجيل أسماء.
وقعت الجريمة فجر أول يوم في القرن الهجري الجديد، وكما هي عادة الخطاب الوعظي في اهتبال كل شيء يرعب الناس لقرع الأجراس بدنو الآجال وقرب الساعة من باب أن الترهيب مقدم على الترغيب في الحياة، ولا يُغلّب جانب الترغيب إلا وقت الاحتضار فقط! كانت التنبؤات والتخرصات هي الغالبة على حديث الناس قبيل الحدث بفترة، إذ لا تفتر الألسن أن تلوك الأساطير والخرافات، يدعمها تمرير الأحاديث الموضوعة والمكذوبة عن الزمن ومطالع القرون لترهيب الناس. لم يكن أحد، حينئذ، يميز بين صحيح الحديث وضعيفه. غير أن الأحداث جاءت بالأمر الصادم للخطاب الوعظي ذاته! إذ تبدت الشرور ممن كان يُظن بهم خيراً وصلاحاً وإصلاحاً حين أقدم بعضهم على احتلال بيت الله واحتجاز المصلين وتعطيل الصلاة فيه لفترة تجاوزت الأسبوعين، مما نتج عنه سفك للدماء بين قتلى وجرحى في الشهر الحرام وفي البيت الحرام.
من هنا بدأ الناس في التنبه إلى الأمر، وانسحب البساط واهتزت الثقة كثيراً، من تحت بعض أصحاب الخطاب الوعظي، الذي ظاهر بعضها الصلاح وباطنها السم الزعاف. إلا أن الحذر والمخاوف من هذه الجماعات الحركية لم تدم طويلا، حيث قدمت جماعة الإخوان المسلمين إلى البلاد ونقلوا فكرهم المأزوم باسم "الصحوة"، وانساق الناس خلفهم فترة زمنية حتى كشّرت أفكارهم عن أنيابها وأطلقت قذيفتين من رحمها المشؤوم أسمتهما "القاعدة" و"داعش"، وفي ذلك حكايات أُخر.
فهد الأحمري- الوطن السعودية-