حضت أمانة هيئة كبار العلماء قبل أيام المختصين على الرد على ما يُشيعه عدنان إبراهيم من شبهات حول الكتاب والسنة ومعتقد السلف ومصادر التلقي والصحابة الكرام، رضي الله عنهم، والتاريخ الإسلامي وعدد من الأحكام الفقهية وغير ذلك، وجاء رد عدنان إبراهيم بطلب مناظرة من ترشحه هيئة كبار العلماء من العلماء الكبار، كما يقول، أما ردود الأفعال فكانت متنوعة، منها ما يسأل: أليست هيئة كبار العلماء من المتخصصين، الذين هم أولى بالرد من غيرهم؟ فلِمَ يَحُضون غيرهم على القيام بما هو دورهم، ومن ردود الأفعال ما استحسن فكرة المناظرة واشتغل هؤلاء في مواقع التواصل الاجتماعي بترشيح فلان وفلان، وانْتَدَبَ قليلٌ من طلبة العلم المتميزين أنفسهم لمناظرته.
وفي هذا المقال سوف أناقش الموضوع من عدة زوايا أراها في منتهى الأهمية:
فأقول: هل أصبحت ثقتنا بديننا وثوابتنا وتاريخنا وما قرره علماء الأمة منذ أقدم العصور هَشَّة لدرجة أننا لا نجد مخرجا نحمي به شبابنا من الانخداع بتضليل المضلِّين إلا المناظرة؟
وماذا لو انهزم عدنان في المناظرة وجاء بعده مضل آخر وطرح شبهات أُخر، أو أعاد الشبهات السابقة في صور أخرى، هل سنعيد الحديث عن المناظرة من جديد، وهل سيبقى ديننا وثوابتنا وتاريخنا عرضة للمناظرات، كلما انتهينا من مبتدع مضل انتقلنا إلى آخر نعرض ديننا وإيماننا للهزات مع كل مناظرة نخوضها مع مبتدع!؟
ولنفرض أيضا أن عدنان إبراهيم انتصر في هذه المناظرة، فهل معنى ذلك سقوط ثوابتنا وتاريخنا أمام شبابنا بسبب فشل شيخ في مناظرة!؟
يا للهول، ما هذا الحديث الخطير الذي لم تُتدبر أبعاده.
كيف أصبحت ثوابتنا التي عاشت الأمة عليها ألفا وأربعمائة عام معلقة بمناظرة!!
ثم ألا يعلم هؤلاء المندفعون نحو فكرة المناظرة أنه ليس من شرط المناظرات أن تنتهي بخاسر ومنتصر، بل أكثر المناظرات اليوم تنتهي والمشاهدون المحايدون مختلفون في تحديد من هو الرابح في هذا اللقاء، أما المشاهدون غير المحايدين فالغالب أن المناظرات لا تغير في توجهاتهم شيئا، وكثير منهم يَخْرُجُ من مشاهدة اللقاء ظاناً أن متبوعه قد سحق خصمه.
هذا فضلاً عن كون المناظرات حين تُعْرَض على العامة، أو المثقفين غير المُتَخصِّصِين المتمكنين في العلوم الشرعية لا بد أن يلتقطوا منها كثيراً من الشبهات، فمنهم من تستقر في قلبه ومنهم من يرفضها، والشبهة إذا استقرت في القلب لعبت به، ومن الناس من إذا وقعت الشبهة في قلبه استرخى لها حتى تطأه ومن وطأته شبهة في دينه مهدت لغيرها وغيرها حتى يصبح القلب ميداناً للشكوك، قَلِقَاً غير مستقر على شيء.
ولهذا ومثله نهى الله تعالى في كتابه الكريم المؤمنين عن مجالسة أصحاب الشبهات والشكوك الخائضين في دين الله، فقال تعالى (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا)، وقد فهم علماء الأمة من هذه الآية: النهي عن عرض الشبهات على القلوب، قال شيخ المفسرين أبوجعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية "وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم" 9/ 231. ثم ذكر -رحمه الله- نحو ذلك في تفسير الآية عن ابن عباس -رضي الله عنه- وإبراهيم النخعي وعمر بن عبدالعزيز، رحمهما الله، ولم يذكر لهم مخالفا.
ولذلك امتلأت الكتب بالرواية عن المتقدمين من أهل العلم في تجنب سماع الشبهات والمناظرة والمجادلة فيها، وللشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره المنار الذي يروي كثيراً منه عن شيخه محمد عبده كلام مهمٌّ في ترجيح كون الآية عامة في الدلالة على النهي عن مجالسة أهل الجدل والأهواء والبدع، وأَرْجَعَ ذلك إلى كونه يوقع في الافتتان بالبدع والأهواء، ثم قال "ولذلك حذر السلف الصالحون من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار" 7:422.
وقد يقول أحدهم، ولكن عدنان وأمثاله يعرضون شبهاتهم على الناس دون رادع أو رادٍ، فالمناظرة ستسقطهم أمام الناس وتبين زيف حججهم، ولو أنهم لم يَظْهروا ولم يشتهروا ولم تَرُج شبهاتهم بين الناس لما كانت حاجة لمواجهته، أمَّا والأمر على ما هو عليه فالحاجة ملحة إلى مناظرة أحد العلماء له.
والجواب عن ذلك بأن أقول: ثُمَّ ماذا بعد المناظرة، هل سيرتدع الرجل ويتوب وينيب، أم هل سيسقط ذكره وتموت شبهاته؟
نعم قد يكون شيء من ذلك عند البعض وقد لا يكون، لكن الذي أجزم به: أن المناظرة لن تقضي على الشبهات التي نشرها، بل سينتج عن مواجهته على الملأ شبهات أخر تقذف في النفوس ولن يتسع المقام لردها، وما دامت هناك قلوب ضعيفة اليقين سريعة الاستئسار للشبهة، وقلوب أخر يطير بها الهوى نحو الشبهات فخطر المناظرة عظيم لما ستتضمنه من التلبيس المتعمد عبر أسئلة واستشكالات ستُترك معلقة، ولن يفي وقت البرنامج كالعادة بالجواب عنها، أو عبر أجوبة ستلتبس على كثير من المتابعين ويفهمونها على غير وجهها أو تستغلق عليهم المسائل فتزيدهم حيرة وشكّاً.
إذاً ما الحل؟
الحل في تقديري لا يبدأ من النهاية، إنما يبدأ من تشخيص المشكلة أولاً، فالمشكلة ليست وجود مبتدع يدعو إلى بدعته أو ضال يمتهن نشر الشكوك في ثوابت الأمة ويسعى إلى زعزعتها.
ليست المشكلة هنالك، فالأمة على مدى تاريخها وهي تُبْتَلَى بدعاة الابتداع والشك والضلال، ونالها منهم كثير من الشرور، وتعرضت جراء فتنتهم لانحرافات عديدة، بل إن كل ما جاء به عدنان من شبهات وشكوك ليس منه شيء جديد، فهو مسبوق في كل دعاواه بدعاة من مختلف أهل البدع في كل عصر ومصر، ولا جديد عنده إلا أنه أخذ من كل فرقة منحرفة شيئا مما عندهم فجاءت آراؤه كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات.
فليست المشكلة التي ينبغي أن نعالجها هي وجود مبتدع جديد وشبهات مكررة.
إنما المشكلة في سرعة تَقبل العقول لهذه الشُّبَه وركونها إليها وانبهارها بها، إذ إن الأصل في العقول أنها لا تتنازل بسهولة ويسر عن قناعاتها الأولى أو عن مُسَلَّمات ثقافة مجتمعاتها، والعقل الذي يفعل ذلك ويرتبك ويتضعضع بسرعة أمام محاولات تغيير مفاهيمه، دون أن يَتْرُك لنفسه فرصة دراسة محاولات التغيير هذه وفق معايير العلم أو سؤال المختصين عنها، وإنما يتبناها بمجرد طروئها على سمعه ويتعصب لها، ويعطي صاحبها كل ما لا يستحقه من أوصاف التعظيم، لا لشيء إلا لكونه ملأ الأسماع بهذه الشبهات، أقول: إن العقل الذي بفعل ذلك عقل منهزم فاقد الثقة بثوابت أمته وعلوم دينها وتاريخها، ولذلك ينساق بأسرع مما يمكن تخيله وراء أصحاب الشبهات التي تطال أصول الدين وحقائق التاريخ، لأنه وجد في دعاواهم تعبيرا عن مشاعره الهشة تجاه ثوابته وتاريخه، وتبريرا للانهزام الفكري الذي يعيشه.
وجود هذا النوع من العقليات بين شبابنا وكتابنا ومثقفينا، هو السر وراء ما نجده من الرواج السريع بينهم لأطروحات كل المشككين في بنية مجتمعنا الثقافية وليس عدنان إبراهيم وحده.
بل إني أذهب إلى أعمق من ذلك، فأرى أن هذه العقليات المتأزمة المنهزمة يتصيدها طرفان:
أحدهما: أصحاب الطرح التشكيكي من فئة عدنان والكتاب المنتسبين لليبرالية.
الآخر: الغلاة التكفيريون.
فكلا الطرفين توجها نحو مجتمع وسطي محافظ على ثوابت دينه معتز بتاريخ أمته واثق بعلماء بلاده وما قامت عليه دولته من أصول، فاشتغل الطرفان كل من جهته على الإيقاع بهذا المجتمع عبر تَصَيُّد هذه العقليات المنهزمة التي تشترك في كونها مأزومة ميالة نحو الهوى، وتختلف في نوعية أهوائها وطريقة ميلها، فما كان منها ميالاً للتفريط والانفلات تَبِعَ دعاة الطرف الأول، وما كان منها ميالاً للتعبير العنيف عن مشاعره وأفكاره تبع الطرف الآخر.
إذاً فالمناظرة ليست حلاًّ، بل قد تؤدي إلى مُفَاقمة المشكلة، والحل هو معالجة أزمة الانهزام الثقافي والفكري لدى شبابنا، بتسخير برامج التعليم والدعوة والإعلام لتعزيز الثقة بتاريخنا وديننا وفقهنا وثقافتنا وأخلاقنا.
والحق الذي يتبدى لي كمتابع أننا منذ عشرين عاما تقريباً نزداد كل يوم تقصيراً في هذا الجانب لدى مؤسسات التعليم والدعوة.
أما المؤسسات الإعلامية الوطنية والمملوكة لمواطنين، فإنها للأسف تسهم منذ زمن في إيجاد هذه العقليات المنهزمة المتأزمة، وإبراز عدنان إبراهيم وأمثاله عبر قنوات مملوكة لسعوديين أوضح شاهد على ذلك، بالرغم من مواقف الرجل المناوئة للدولة سياسيا.
أما الشُبَه التي أطلقها عدنان فأمرها يسير، ويمكن الرد على كل واحدة منها بمقالات أو مقاطع يوتيوب كما كان يفعل هو قبل أن تستضيفه القنوات المحسوبة علينا.
وأوعية الرد هذه كفيلة بأن تُسْقط شبهاته كلها، وسيقتنع بها كل مريد للحق، أما أتباع الهوى فلا حيلة فيهم.
وللحقيقة فهناك ردود متميزة وواضحة على كل ما أورده من شبهات، أذكر منها على سبيل الإطراء لا الحصر: قناة مكافح الشبهات على موقع يوتيوب، ولذلك أنصح بمتابعتها كل مريد للحق يقول في دعائه مخلصا لله: اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
محمد السعيدي- الوطن السعودية-