رغم كل هذه الجهود التي تبذل لمقاومة العنف والمفاصلة معه هل يمكن طرح سؤال المفاصلة مع العنف؟ وإلى أي حد وصلنا معه؟ وهل ثمة خلل في فقه المفاصلة مع العنف بالنسبة للدعاة؟ - طبعاً أنا أتكلم هنا عن مواقف متتالية من حالة العنف في الخطاب الدعوي ربما تصل إلى حد الظاهرة ومن الظلم تعميمها على الجميع – لكن الذي أود أن أشير إليه هنا هو «حالة مشكلة» قد يكون حلها هو مفتاحنا للمفاصلة التامة مع العنف وتعطيل خلفيته الفكرية، هذه الحالة تتمثل في وجود فراغ زمني كبير بين «الموقف الأمني» والموقف «الشرعي» أو بالتحديد «الموقف الدعوي» - عند طائفة من المشغولين بالهم الدعوي- في المفاصلة مع العنف ومنابذته، فالموقف الأمني يصل إلى خط المفاصلة في اللحظة الأولى من بداية العنف بينما يتأخر عنه «كثيرا» الموقف الدعوي، وليست المشكلة في إشكالية التأخر، فلا يدعو هذا للقلق مادامت المسألة مجرد وقت ثم يلتقي الموقفان، المشكلة حقا أنه في هذا الزمن الذي يقضيه الداعية حتى يصل إلى موقف رجل الأمن ويقف معه على خط المفاصلة يتساقط الكثير من الضحايا من الشباب والداعية مازال يمشي في السكة!! وسأوضح ذلك بالمثال: في عام 1432 لم يكن موقف الكثير من الدعاة من داعش كما هو في عام 37/1436، فقد كان الموقف الدعوي منها في الأول رخوا غاية الرخاوة عام 32 عند تحريرها – كما تزعم - سجناء أبو غريب والتاجي في العراق، وهو مختلف جداً عما هو عليه الآن، وهو موقف إيجابي إلى حد كبير،، لكن ثمة سؤال مهم هنا: ماذا لو كان هذا الموقف الصلب من جماعة داعش في بداية ظهورها ؟ هل يمكن أن يتمدد العنف ويتساقط الضحايا؟ ثم سؤال آخر: لماذا هذا التفاوت الكبير بين الموقفين – الأمني والدعوي -؟ مع أن المفترض أن يكون موقف الداعية أو طالب العلم يسبق موقف رجال الأمن؛ لأن الأول - لو كان فقيهاً بحق - يجب أن يحكم على الجماعة ليس من خلال ممارساتها وإنما من خلال منهجها الذي تذيعه للعلن في أول تأسيسها، وهذا يعني أنه لا يصح أن ينتظر حتى تُحدث هذه الجماعة حدثاً ثم يحكم عليها من خلاله، ومع ذلك حتى إذ أحدثت هذه الجماعات حدثاً مضى هذا الداعية يتخذ الكثير من الإجراءات حتى يصل إلى حكمه الأخير والنهائي! ويمكن أن أصور هذه الحالة بهذا المثال من الواقع القريب – وقد عشناه قبل عشر سنوات: قامت جماعة القاعدة بالتفجير في سكن عسكري يسكن فيه مجموعة من المقيمين العرب والأجانب، ثم اتخذ رجل الأمن موقفه الواضح من هذا الحدث وهذه الجماعة، فأعلن تجريم أفعالها، والنفير لمواجهتها، أما الداعية فاحتاج قبل أن يتخذ موقفه إلى مجموعة من الإجراءات: أولها: التوثق من نسبة هذا الفعل إلى هذه الجماعة، وهذا الإجراء يستغرق الكثير من الوقت والجدل حتى يصل إلى الحكم القطعي فيه، وثانيها : تكييف الحالة في الشريعة، وجماعة القاعدة في هذا الظرف – بعد الحدث- كانت تشتغل على لعبة التشويش والتمويه على الداعية ـ إما بالتبرؤ من هذا العمل مرة، وهذا يؤثر على الإجراء الأول – عند الداعية - ويبطئ في قراره، أو برفع شعار المظلومية مرة، أو بذريعة التأويل والتبرير مرة أخرى، وأن ما تفعله هو تنفيذ لأمر الله تعالى واستجابة لأمره، وهذا يشوش على الإجراء الثاني ويدخل الداعية في نفق طويل من التيه والحيرة. والسبب في هذا كله - في تقديري – هو في خطأ التمركز لدى هذا الداعية، فكثير من هؤلاء لا يعوقهم عن اتخاذ الموقف الصحيح سوى أنهم «تمركزوا» في الموقع الخطأ!، وأعني بهذا الموقع هو الوقوف في منطقة الحياد - كما يظنونه ويتوهمونه- بين موقف الدولة وبين موقف هذه الجماعات، فيحاول بعضهم أن يكون «مستقلا» لا إلى الدولة ولا إلى جماعات العنف، وهذا الموقف وإن لم يصرح به بعضهم، لكنه يظهر جلياً من تصرفاته ومواقفه، وهذه خدعة كبيرة ووهم قاتل، فكيف يمكن لنا أن نساوي بين موقف الدولة الذي يجب لها السمع والطاعة والبيعة، وبين موقف هذه الجماعات والميليشيات؟ إن الحياد هنا كذبة كبيرة، لأن الوقوف في المنتصف يعني بالتأكيد وجود خلل في مقتضيات البيعة واستحقاقات الولاية، وما عبر العنف وتسلل إلى صفوف الشباب إلا بسبب وجود هذه الإشكال، ويمكن أن يتخذ هذا الموقف «الحيادي الخادع» صوراً ومظاهر كثيرة، من أبرزها: النأي بالنفس عن تصديق وتبني بيانات الدولة عن أحداث العنف، ومحاولة عرضها للناس بصورة توحي بعدم تبينها أو الحياد معها! سواء كان ذلك في خطبة جمعة أو في محاضرة أو تغريدة عبر تويتر، أو نحو ذلك، وذلك حتى «لا يحسب على أحد»!! ومنها: النقد العلني لما يظهر من خطأ وقصور في أجهزة الدولة أو ما يتوهمونه من ذلك، ومحاولة تصعيد هذا الخطأ عبر وسائل التواصل والمبالغة في النقد، بينما لا تكاد تسمع من بعض هؤلاء ثناء على منجزات الدولة وجهودها، أما في مجال مكافحة الإرهاب فثمة صمت رهيب، فلا تكاد تسمع من هؤلاء صوتاً يبارك هذه الجهود الضخمة! ومن مظاهر هذا الحياد الخادع أيضاً: التحرج من الخطاب الوطني، والاشتغال الدائم على الخطاب الأممي، فلا تكاد تجد في خطابهم مفردة «الوطن» أو «المملكة العربية السعودية»، أو «الوطن الغالي»، كل هذه المفردات تكاد تكون غائبة عن خطابهم، وإذا حضرت فتأتي على استحياء شديد وبسياق النقد والتشهير، بينما تحضر المفردات الأممية بكثرة، كـ «الأمة» و«المسلمون»، و«العالم»، ونحو ذلك. (والنتيجة لهذا الخلل وانعكاسه في عقول الشباب على المدى البعيد هو أنه لابأس أن يحترق الوطن الصغير في سبيل أن يبقى الوطن الكبير).
إن استقلال العالِم لم يكن أبداً بهذا الحياد الخادع، لأنه ليس هناك مساحة بين الموقفين أصلاً، فليس ثمة إلا موقفان: موقف الإرهاب وتأييده وموقف مكافحته ورفضه، واستقلال العالِم لا ينافي مطلقاً تبني مواقف الدولة وخطابتها، فإن من أقل استحقاقات الولاية ولوازمها الاطمئنان الكامل لما تتخذه الدولة من إجراءات ومواقف والثقة بتصرفاتها وإحسان الظن بما تقول وتفعل، ولم يكن أبداً من مهمة العالِم عبر التاريخ أن يستدرك على الدولة ويفتش في مواقفها أو يختبر مصداقيتها أو يجعل نفسه نداً للدولة ومباينا لها، أو جزءا منفصلاً عنها، وأول بدعة أسست لهذا التصور هي بدعة «ولاية الفقيه» في الفكر الشيعي- . فعلى العالم إن رأى ما يستوجب النصيحة أن يتعاهد من ولاه الله أمره بالنصيحة مقرونة بالحكمة والموعظة الحسنة، من غير تشهير ولا تحريض، وهنا إشكال في قضية النصيحة للحاكم لابد من الإشارة إليها، فالخطاب الحركي لا يراها نصيحة صادقة إلا حينما تكون على العلن وبلغة صلبة وحادة، وهي – عندهم على هذا النحو- مؤشر على تجرد الداعية واستقلاله، بينما يرى النصيحة السرية هي دلالة على خور العالم وضعفه و«تبعيته للحاكم»، وهذا المفهوم للنصيحة أجنبي عن الشريعة تماماً، بل هو مباين لمذهب السلف في هذا، ومستورد من أدبيات الجماعة الحركية لا من أدبيات الشريعة، وإذا كان السلف متوافرين على أن النصيحة لا يصح أن تبذل علنا لآحاد الناس فمن باب أولى أن تكون للحاكم كذلك، يقول الشافعي رحمه الله _ كما نقله الغزالي في الإحياء: «من وعظ أخاه سرّاً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه»، وقال الحافظ ابن رجب (رحمه الله): «وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سراً»، حتى قال بعضهم: «من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه»، ثم نقل – رحمه الله- كلمة للفضيل بن عياض، وفيها: «المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير»، ثم عقب عليها بقوله: «فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح، وهو أن النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان».
أما النصيحة للحاكم سراً فثمة خبر صحيح يدل على أن هذه المسألة مستقرة عند الصحابة استقرارا تاماً، فقد روى البخاري في صحيحه عن أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه فقال: «أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله! لقد كلمته فيما بيني وبينه. ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه»، وقد أورد البخاري هذا الأثر في «باب الفتنة التي تموج كموج البحر»، ولعله إشارة منه (رحمه الله) إلى أن التشهير والإعلان بالنصيحة باب إلى الفتنة. وما ورد في هذا من الأخبار والمواقف التي تخالف هذا فهي استثناءات لا يصح أن يستدل بها على نقض هذا الأصل، وهو الإسرار بالنصيحة. ثم ثمة إشكال آخر في النصيحة، وهي أن من بذل النصيحة سراً عليه ألا يكون محامياً عن نصيحته ومترافعاً عنها، بل يتوقف دوره عند بذلها، فإن لم يمتثل المنصوح فلا يذهب للتشهير به وفضحه، فهنا تتحول النصيحة من مقصد النصح إلى مقصد الرئاسة والملك، وقد نبه على هذا المعنى الدقيق أبو محمد بن حزم (رحمه الله) - كما في الأخلاق والسير- فقال : «ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة وملك، لا مؤدي حق أمانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل، ولا حكم الصداقة، لكن حكم الأمير مع رعيته، والسيد مع عبده». وفي مسألة النصيحة إشكالات مهمة، لكن هذا ما اقتضته هذه الإشارة.
أخيراً إذا أردنا أن نفاصل العنف مفاصلة مطلقة وننابذه منابذة تامة فلابد أن يكون خطابنا الشرعي على مستوى الحدث، وأن يكون الداعية على وعي شديد بحيل وأساليب جماعات العنف التي تضعه في موقع تتعطل معه قدرته على الفرز والتقويم، كما أن على الداعية أن يراقب موقعه ويحدثه باستمرار، فكلما ابتعد عن دولته ونأى بنفسه عنها فهو يجنح – رغماً عنه – إلى مواقف هذه الجماعات ويصطف معها ولو أدان تصرفاتها وممارساتها، إذ ليس هناك-كما قلنا- مسافة فاصلة بينها،: إما الدولة وإما الجماعة، وودَّ سدنة العنف لو ظفروا من الدعاة بهذا الموقف، وقد ظفروا ببعضهم بكل أسف.
د. خالد بن عبد العزيز أبا الخيل- عكاظ السعودية-