لن يخذلنا إلا المحرضون الظاهرون والمستترون، ولم يقدمنا للمخاوف ويأخذنا للتكفير والتخوين والتأليب إلا هم وأشباههم، لهم قدرة مخيفة على المراوغة والخداع وجر القضايا لحلبات متنوعة وهم على خشبات المشاهدة، مهووسون بالنفاق والتقديس والتضليل وعزمهم دائم على طعن النسيج ونحر الجيل التائه من الوريد للوريد، ما يمارسونه في العلن من أفعال التأجيج والصيد في الماء العكر ونفث سموم الكراهية أفعال بالغة التأثير وإن مرت على العقلاء مرور الكرام أو بوصفها فلسفة جاهل احمق.
جمل التحريض الحادة والمدببة تُفرز كجس نبض وتتطور مع التراخي وإغماض العينين لتكون وقوداً لكراهية تحرق أبجديات السلام والتعايش التي كانت بيننا وتسلبها بالتدريج، هذه الجمل تتضخم عند عتبة المآسي الكبرى فتكون حملة منظمة لتصفية الحسابات والتمييز ومكارثية حرق القلوب والعقول نحو زراعة سوس بشري يدمن لوازم التفخيخ ومعاول التطرف وتقديم أجساد مهترئة في أسراب من القطيع الثائر الغاضب المتقيح.
ترك الحبل على الغارب للمحرضين واعتبار ما ينفثونه أشبه بالبوح الشخصي لا يذهب بنا للتفاؤل الذي نحن في أمس الحاجة له، المحرض دنيء وإن غضب جماهيره ومتابعوه والمشجعون له، ولم لم يكن من دناءته الا استثماره لجراح بلده لكان ذاك كافياً ومشجعاً على أن يصافح بعقاب يليق به ونوقف شره في منتصف الطريق قبل أن يدفع ابناؤنا الثمن الباهظ، المحرضون لا يعرفون إلا لغة العداء والحقد والإقصاء، فاشلون جداً في نثر الحب في المساحات الميتة، ولا يعرفون قيمة أن تضع بعض حب حي في هذه المساحات ولو من أجل وطن لا يليق به أن يطعن من الظهر.
الحملة اللازمة في ظروف كهذه تستوجب أن نسحب المحرضين على وجوههم، أن تٌقص اظافرهم الطويلة ونسائلهم عن سر صراخهم وضجيجهم، نعريهم ولو لمرة واحد فالبيئة التي تحضنهم الآن تحضن كثيراً من المفردات المأزومة والمخيفة والراغبة في حقن مجتمعاتها بالدم القابل للانفجار لمجرد اللمس والاختلاف.
ضحايا التحريض تحدثت عنهم المآسي وخطط الخراب والتدمير، بينما لا تزال الرؤوس الكبار والأفاعي الخطرة ترمي شبابيك الصيد فتلتهم الصغار والمنغلقين والسذج، واستمرار القيء الحالي ناتج متوقع لحكايات لم نأبه ونعبأ بها مرت بصمت وسلام وعبرت كنكت ظنناها تموت بعد سماعها، من سهل كراهية وإقصاء الآخر، من عبر عن الاختلاف كمبرر للتصنيف وإلقاء التهم؟ من يريد أن تكون نقاط التقائنا على طاولة الحوار والهدوء والمواطنة أندر من الكبريت الأحمر؟ من يضج بالبكاء ان كانت نوعية الدماء النازفة خارجية لا محلية؟ من يلعب بالتكفير ويقذف به على من يجاوره بلا تردد تحت بند الحب والكره؟ من جعل الطائفية والعنصرية والكراهية جزءاً من العقيدة؟ من ضخم الأوصياء وقزم المتسامحين؟ هذه اسئلة مشروعة، وبعض اجاباتها في بطن السؤال الا أن للمحرض رائحة في كل سؤال منها، وان كانت جراحنا المحلية المتفرقة الأخيرة تتحدث عن أقلية هؤلاء المحرضين، لكنها أقلية سهلة النمو في ظل الصمت والتساهل وغياب التجريم والقوانين المصاحبة، الأقلية تنمو معها المتردية والنطيحة، ولكن لنكن صرحاء وتنفيذيين «هم أقلية وخونة لكننا أكثر وأقوى».
علي القاسمي- الحياة السعودية-