كنت قد بدأت في الجزء الأول حكاية تجربتي مع مفكر أعتقد أنه يمثل هذه البداية، حيث قدمت خلاصة تجربتي مع الأصولية. في هذا الجزء سأتطرق للأفق الفني والفكري الذي فتحه علي عزت أمامي، وسأختم في الجزء الأخير بمقال عن الحرية الجذرية التي يمثل علي عزت إحدى البدايات الممكنة لها كذلك
في تلك المرحلة كنت قد بدأت باكتشاف الفن. الفن الذي يتجاوز مجرد الجمال. بتفريقات الغربيين كنت قد بدأت أكتشف أن هنالك Art وEntertainment. لاحقاً سأكتشف أنه هنالك فرق مشابه بين السياسة الجذرية والألاعيب النضالية.
أذكر أنني عندما كنت أقرأ «مائة عام من العزلة»، وهي أول رواية، وربما كتاب كبير، قرأته في حياتي، كنت أنفصل عن العالم الواقعي الذي كانت أسسه تتداعى بالنسبة لي، كانت تفاصيله المهمة تنتهي، وبصورة شديدة القسوة. وأرحل إلى عالم الرواية، بلا أي معرفة عن كيف تقرأ الروايات، ولا أي دراية بأهمية النص الذي أمامي. هذه المواجهة «البريئة» مع الفن ما زالت تمثل أساس فهم الفن كشيء «حقيقي» أكثر من الواقع بالنسبة لي. بعدها بفترة كنت أجد الألم في مختلف الفنون، هي كانت تذكرني بالحقيقة التي تختفي في الواقع، حقيقة أننا نعيش الحياة بأكثر من مجرد الحياة. هذه الحقيقة التي نحاول جميعاً الهروب منها...
سؤال الفن ليس سؤالاً جميلاً. بمعنى أنه سؤال لذيذ ستشعر بالسعادة وأنت تتعرض له. ذلك أن مصدر الفن هو أزمة الوجود، لماذا هنالك حياة وموت، وجود وعدم. كنت قد شعرت لأول مرة بهذه الأزمة وأنا أشعر بالشر في داخلي. هنالك مع التفجرات الكبيرة نفقد حياد الطفولة، حالة كوننا ظواهر «طبيعية». كل شيء غير طبيعي يبدأ بالظهور حتى أنك لا تعرف من أنت حقاً. تصاب بالذهول من الجميل والقبيح الذي يمكنك أن تفعله. ومن ذلك الذي يمكنك أن لا توقف نفسك عن فعله. ولتواصل المسير في هذا الطريق الصعب عليك أن تستعين بالأعمال الفنية. أن تأخذها بجدية. خذ مثلاً الفيلم Shawshank Redemption ما يجعله جميلاً هو أننا جميعاً نعلم أننا نعيش داخل سجن ونحاول الهروب منه. ليس هنالك شيء «بسيط» و«بريء» في هذا الاستمتاع، إنه تمثل «لمشكلة» و«أزمة». هذا «الفن» الذي هو (أنا أعرف الفن بأنه الشيء الجديد جذرياً. لأن الذات نفسها هي الخلق من العدم. الحب مثلاً هو خلق من العدم. كانت كان يقول بأنك حتى تقوم بشيء أخلاقي فأنت يجب أن تولد من جديد، أن تخلق نفسك من العدم/ وهذا حسب علمي هو تعريف الفن عند آلان باديو)، هو فن عرفني إليه لأول مرة علي عزت بيغوفتش. الشيخ القارئ لهيرمان هيسة ونيتشه. يحدثك علي عزت عن ذهوله أمام لوحات بيكاسو وكأنه طفل صغير. وأنا في ذلك الزمن كنت شديد الانبهار بكليشيهات الثقافة (الفن والفكر) ولكنني رغم ذلك أحسست بأن شيئاً قد حدث.
كان تساؤل بسيط يدور في رأسي. من هو الإنسان الجيد؟ وهنا كنت أرى تناقض أن البشر المتدينين هم بشر سيئون. وأكثر من ذلك، إنهم لا يشعرون. أعتقد أن الاستنتاج البسيط هنا هو أن الدين يجعل الناس سيئين لأنه مجرد أكذوبة سخيفة. مثل هذا الاستنتاج لن يكون ممكناً داخل الفلسفة... وابنها الشرعي «علم التحليل النفسي» (وليس علم النفس). وكما سنرى لاحقاً فإن أكثر ما يمكنك أن تراه عبر علي عزت بيغوفتش هو أن الدين، كالفلسفة، هو أقرب للتحرر من اللادين. بعد ذلك بوقت طويل عرفت أن هنالك علاقة وطيدة بين الفلسفة الأوروبية «القارية» والدين. بينما هنالك علاقة وطيدة بين اللادين والفلسفات الواقعية كالتحليلية. في المثالية الألمانية وابنتها الجدلية المادية كانت هنالك دائماً مساحة من الحرية الجذرية، بينما تختفي هذه المساحة في الفلسفة التحليلية... وصولاً للاختلاف بين علم التحليل النفسي الفرويدي ومدارس دراسات العقل Cognitive Sciences.
بالنسبة لي، فإن الكتاب «هروبي إلى الحرية» شكّل بالفعل باباً انفتح على مصراعيه. علي عزت بيغوفتش، وعلى الرغم من كونه مفكراً إسلامياً، إلا أنه ابن مدرسة، في الجذرية والثورة والحقيقة، هي جوهر أوروبا. ربما يكون علي عزت في ذاته إثباتاً ضد دعاوى العودة إلى «التراث الإسلامي» لفهم الدين. فعلي عزت لم يكتشف الدين في أصل تاريخ الفكر الأوروبي وحسب، بل اكتشف الأصل المشترك للدين. فالدين ليس عربياً، ولا أوروبياً، ونفس الأمر يمكن قوله بالنسبة للحقيقة. لذلك يمكنك أن تقول عن كانت إنه «أحد المعلمين العظام للإنسانية» وأن تكون مسلماً. بل أكثر من ذلك، بالنسبة لعلي عزت، فأنت لن تكون مسلماً ما لم تقل ذلك! إن الانفصال بين الشرق والغرب، ومحاولة احتكار الحقيقة في داخل التاريخ الاجتماعي للطوائف والجغرافيا، هو الوثنية بعينها، عندما يعبد الإنسان عشيرته ويسخّر الحقيقة في «صراع الحضارات». «نحن» ضد «هم» بتعبيرات إدوارد سعيد. من «نحن»؟ بالنسبة لعلي عزت فنحن أكثر من كوننا أبناء للصحابة وبقية رموز التراث... نحن أبناء الحقيقة التي ظهرت في أوروبا. نحن أبناء تلك الحقيقة أكثر من الأوروبيين.
والكتاب هو فن في النضال. كتبه علي عزت وهو في سجون شيوعية تيتو. كتبه كمهرب من طبقات السجن المتعددة. دعوني أضعها بهذا الشكل: في «ذاتيته» هرب علي عزت نحونا جميعاً. هو أراد أن يكون جزءاً منا، نحن الذين سنقرأ كتابه ثم نرتبط معه بعلاقة أبدية. إن الذاتية المفرطة لشخص يدون أفكاره المعقدة في بيئة لا تقرأ غير «التكرار الأصولي اللا نهائي» هي المدخل الوحيد للمطلق الذي يجمع «الطائفة»... «الحزب». إن هذا المطلق Universal الذي يجمعنا جميعاً هو ما هرب علي عزت له.
الكتاب عبارة عن تأملات، في الفن والدين والسياسة، مكتوبة في شكل فقرات قصيرة. وقد شكلت هذه المقتطفات مدخلاً رائعاً بالنسبة لي للثقافة الغربية... التي هي غاية «الثقافة». ومن وقتها أنا أتعرف بصورة أفضل على أولئك الذين قرأت عنهم عند علي عزت أول مرة: كيركيغار، هيغل، كانت، والبقية. هم المعلمون العظماء للإنسانية. وإن كانت «حضارتك» تجعلك تخجل من قول ذلك فأنت لم تخرج من السجن بعد. هذا بخلاف أنك تخلط بين أشخاص مثل جورج بوش وكانت. هؤلاء لا ينتمون لنفس الحضارة «إن كان لزاماً أن نتكلم بمنطق الحضارات». جورج بوش ينتمي لنفس حضارة صدام حسين.
ثم جاءت منظومة علي عزت الفكرية بعدها في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»: الأخلاق هي أساس الدين. ولذلك فالعقل الحر هو أساس الدين. لأن الأخلاق هي نتاج حرية العقل. الله نفسه سيعتمد على الأخلاق حتى يصبح ممكناً. وليس العكس. ولذلك فالنص عديم القيمة (بل قد يكون شراً) إن قُرأ من دون عدسة الأخلاق والعقل.
بالنسبة لعلي عزت، فإن القانون الأخلاقي في الإنسان هو شيء سابق للدين. بمعنى أنه سابق للرسالة السماوية. هو، بالتأكيد، بالنسبة لعلي عزت، جزء من الدين دائماً، لكنه ليس جزءاً من «التعاليم» الدينية. الرسالة لا تعلم الناس الأخلاق، لا تخبرهم ما هو الصواب وما هو الخطأ، ذلك المجال هو مجال الفرد. أنت عندما تتعرض لسؤال أخلاقي، عن هل يجب أن تقتل أحدهم مثلاً، أو عن كيف يجب أن تعامل زوجتك أو ابنتك، فإنه لا معنى، من الناحية الدينية، لأن تذهب بحثاً عن الإجابة عند شيوخ الكهنوت أو داخل النصوص الدينية. ما هو الأخلاقي في تنفيذ تعاليم الأخلاق من دون أن تقررها بحرية؟ ما تفعله الرسالة السماوية هو عكس ما يتوقعه الأصولي منها، هي تحرر «الفرد» من عبادة «المجتمع». هي تعيد التشريع للإنسان الفرد. تعيد الحرية إليه. ولذلك فهي باستعادتها للحرية والأخلاق والعقل من المجتمع تجعل الإيمان بالله ممكناً. المجتمع لا يستطيع أن يؤمن بالله، المجتمع وثني بطبعه. كابح لحرية الفرد بطبعه. الفرد هو الذي يؤمن، لأن الفرد في وحدته يستطيع أن يدخل إلى المطلق عبر شعوره بالقانون الأخلاقي وتمتعه بالفن.
خذ مثلاً مشهد تحريم قتل «الموؤودة». إن المشهد يشير الى عملية تحرير الرسالة للبشر من عبادة الأعراف. لقد قام القرآن بمخاطبة الأفراد وطلب منهم، «كل على حدة»، بأن يراجعوا ما هو معروف عندهم بصورة فردية «لا ذنب للموؤودة في أن تقتل». هذه الأخلاق الفردية كانت مكبوتة تحت أخلاق المجتمع. وعبر هذه الأخلاق الفردية يدخل، كل إنسان على حدة، داخل جماعة المسلمين. القرآن لم يقرر أنه من غير الأخلاقي قتل الأطفال. سيكون من المضحك أن ننتظر الرب ليخبرنا أنه علينا أن لا نقتل الأطفال! هذه الأخلاق كانت موجودة سلفاً، كل ما قام به القرآن هو تحرير الأفراد. ما أن ندرك أن لا «رب» بدون أخلاق، حتى نرى التشابه بين منهج الأصولية ومنهج الليبرالية اللادينية التقليدية. كلاهما يشترك في كونهما أيديولوجيا اجتماعية لا تعترف بوجود أخلاق عند الأفراد.
كلا التوجهين لا يعترف بأن هنالك «خيراً» في الناس. لأن كلا التوجهين لا يعترف «بالإيمان». الإيمان الذي يدخل به الفرد مساحة الأخلاق والحرية بما يجعله أكثر من مجرد إنسان. بالنسبة إلى الليبرالية فإن البشر سوف يتبعون مصالحهم متى سنحت الفرصة، حتى الأخلاق نفسها يتم تفسيرها تحت وطأة العلم الواقعي (ولا أقول المادي) على أنها نوع أو آخر من المصلحة. ولذلك على المجتمع أن يكبت هذه الحيوانية في داخل الناس عبر «قوانين اجتماعية» تأتي من الخارج ويخضع لها الجميع. نفس الأمر بالنسبة إلى الأصولية. هي ترى في الدين، أو في نصوص الدين، وفي الرب، شيئاً محسوساً حاضراً، هي تسمح بالشك، وترى أنّ حرية الإنسان المطلقة ستقوده إلى البحث عن مصالحه، كأي حيوان، ومن ثم تأتي ضرورة النص كقانون اجتماعي. بالنسبة إلى الأصولية فنحن عبر خضوعنا للنص بشكل كامل فإننا نسيطر على الحيوان في داخلنا.
في داخل هذه المنظومة التي تتوجس من الفردية لا توجد أي مساحة حرية. وبالفعل، فإن الأفراد غير الأحرار، سوف يتوقفون عن كونهم أفراداً وسيبدؤون في تمثل قواعد المجتمع، وفي هذا الإطار فقط سوف يصبحون غير أخلاقيين (وهنا يظهر الفرد-الحيوان في تعبير آلان باديو) وليس العكس. وفي مقابل هذا العلم المتشائم، هنالك فلسفة ودين من نوع آخر. يمكن فيها «الإيمان» بالحرية الجذرية للإنسان، بحريته من «مصالحه» ومن «نفسه». منذ المثالية الألمانية (كانت، هيغل) وحتى علم النفس اللاكاني، ومروراً بالثورات الماركسية، حاول البشر أن يكونوا «مجتمعاً» من الأحرار. مجتمع يمكن فيه أن يوجد الإنسان في كامل غرابته وتفرّده. إن ما يصعب فهمه في هذا الإطار، هو أن مجتمع الأفراد الأحرار هذا هو أكثر ترابطاً وتنظيماً من المجتمع المفكك للحرية الليبرالية الزائفة الذي نعيش فيها الآن. إن الأفراد الأحرار ليسوا قطعاً متفرقة، فالحرية والأخلاق هي أشياء مطلقة تجمع كل الناس. عندما يرحل إرنستو جيفارا ليقاتل من أجل الحرية والاستقلال فإن شيئاً عظيماً جداً سيربطه بفرانز فانون، هم «إخوة» مثل الإخوة في الثورة الفرنسية، لكن هذه طريقة في التجمع تختلف جذرياً عن كل الطرق التي تعودنا عليها. في داخل هذه «الأحزاب الجذرية» لا يوجد قانون اجتماعي، لا توجد «عادات» ولا «مجاملات». في داخلها يوجد أفراد يتعاملون مع بعضهم البعض بلباقة ولطف، تجمعهم رابطة قوية ولكن لا يحفهم أي غطاء خارجي. لذلك ربما تحدث أوسكار وايلد عن «روح» الإنسان في الاشتراكية. المجتمع الاشتراكي سيوفر الخلفية المادية التي سيكون من الممكن داخلها ظهور «الروح»، الفرد المختلف. نحن «الماديون» الذين نتحدث دائماً عن رأس المال، ومصالح العمال، والتنظيم المادي للطبقات القاعدية. نحن في الحقيقة من يهتم بـ«روح» الناس. أما المتشدقون بالروح فغاية فعلهم هو تحويل البشر لحيوانات تنتظر «الحياة» الأخرى.
هذه الفلسفة في الجذرية يمثل الدين، الذي يصنع الأفراد الأحرار، أحد أجمل تجلياتها. لذلك فإن علي عزت بيغوفيتش، وهو الإسلامي الذي صنع أكثر الدفوعات عن الإسلام قوة، سيختفي مثلما اختفى اليسار في الشرق الأوسط وأفريقيا (وأوروبا). سيختفي لأن ما أدى إلى اختفاء أي سياسة جذرية سيؤدي إلى اختفاء أي دين حقيقي: هيمنة طبقات رجعية على المجتمع، وقهر الناس، لا يمكن أن ينجز إلا بتدمير القوة السياسية للتحرر (اليسار)، وتدمير القوة الروحية للتحرر (الفلسفة/الدين).
محمود المعتصم- الاخبار اللبنانية-