تناولتُ في الأسبوع المنصرم شيئًا عن جذور الفكر المتطرِّف، الذي تعاني منه دولٌ كثيرةٌ (إسلاميَّة، وغير إسلاميَّة)، ولم تسلم منه بلادنا التي تُطبِّق شرع الله في حياتها، فكانت البداية بتفجير مقار ومساكن مَنْ يعملون في بلادنا من البلاد الغربية، والأمان مطلوب لهم شرعًا، ثمَّ كان تفجيرهم لمساجد وبيوت الله، ثمَّ كان مع نهاية شهر رمضان المنصرم تفجير بالقرب من مثوى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأتيتُ في تلك المقالة على ذكر الشحن الذي تعرضتْ له نفوسُ صغارِ السنِّ قبل الحادثة الشنيعة، التي أقدم فيها جيهمان، وزمرتُه على استحلال الدماء في بيت الله المعظَّم، وما زلتُ عند رأيي بأنَّ عددًا من الوعَّاظ الذين لا علم لهم بمقاصد الشرع الحنيف، عملوا على تنفير أولئك الفتية من بيوتهم، وأهليهم وحملهم على ترك أسرهم وهجرها، إن لم يكن الذهاب إلى أبعد من ذلك بحملهم كذلك على التشكيك في عقائد آبائهم، وأضحت كلمات مثل فسوق، بدعة، جاهليَّة، خلل عقدي، شيئًا عاديًّا، وسهلاً على ألسنة أولئك الوعَّاظ، وعدد منهم وجد في بلادنا من التسامح والكرم ما لم يجده في بلاده التي نزح منها، كما أفسحت له بعض المنابر مكانًا أثيرًا، فغدا يعتليها وهو ليس بقادر أن يعتلي مثلها في بلاده الأصليَّة.
واليوم وقد انكشف الغطاء عن أهداف تلك الجماعات التي استحلَّت الدماء في أطهر بقاع الله، يتساءل المرء: لماذا يُحجِمُ بعضُ خطباء المساجد في بلادنا عن نقد المنهج التكفيريّ لهذه الجماعات، مثل داعش وأخواتها، كما فعل فضيلة الشيخ الفقيه صالح بن حميد في خطبة صلاة العيد، وحذَّر بلغة صريحة وواضحة من استسهال هذه الفئة المتطرِّفة لقضية التكفير؟! بل ممَّا يؤسف له أن بعضًا من خطباء هذه المنابر يستجيب لتعليمات مرجعيّته الوظيفيّة، ويقدم على شيء من النقد، لكن دون أن يقترب من اسم هذه الجماعة، ويقصد بها «داعش»، ممّا يتسبب في إشكاليَّة فكريَّة لدى الشباب وصغار السن الذين يسمعون ليلاً بأخبار هذه التفجيرات المرعبة، ثمَّ يؤمون المساجد القريبة من دورهم، فلا يجدون أثرًا لما حدث في خطبة الجمعة، والتي يُفترض في الذين يقومون بها أن يحذِّروا شبابنا من هذه الجماعات، دون لجلجةٍ، أو التفاف على القضية الأهم في حياتنا.
ويذهب البعض في تفسير هذا النكوص إلى أنَّه ربما وقر في أذهان البعض من وعَّاظ وخطباء وسواهم بأنَّ نقد المفاهيم الداعشيَّة هو نقد لبعض أسس الشرع الحنيف، وهو أمر أبعدُ ما يكون عن الحق والحقيقة.
ويحضرني في هذا السياق الحديث الذي رواه الإمام البخاري وغيره، ذلك الحديث الذي رواه أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- بأنه قتل رجلاً شهر عليه السيف، فقال لا إله إلاَّ الله، فأنكر عليه النبي أشدَّ الإنكار، وقال: أقتلته بعد ما قال (لا إله إلاَّ الله)؟ فقال أسامة: إنما قالها متعوِّذًا من السيف، فقال: هل شققت عن قلبه؟ وفي بعض الروايات كيف لك بـ(لا إله إلاَّ الله.. يوم القيامة)؟ وتكثر الروايات التي ضرب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعًا في تعامله حتَّى مع المنافقين، فلقد أراد سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يقتل عبدالله بن أبي بن سلول، ولكنَّ الرسول يمنعه قائلاً: لا أقتلهم حتّى لا يتحدّث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه.
ولقد دعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -جزاه الله خيرًا- إلى عصمة دماء المسلمين، وهو ما يتطابق مع مقاصد الشرع الحنيف الذي نطبِّقه، وهذه وصية العلماء الربانيين، فلقد قال الإمام الغزالي -رحمه الله- (أمَّا الوصيَّةُ فأنْ تكفَّ لسانَكَ عن أهلِ القبلةِ مَا أمكنَكَ، مادامُوا قائِلينَ «لاَ إلَهَ إِلاَّ اللهُ، محمدٌ رسولُ اللهِ» غير مناقضين لها، فإنَّ التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه، وفي قول آخر له: «والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم».
عاصم حمدان- المدينة السعودية-