هناك فرق كبير بين الاحتساب والاحتباس. الأول يعني أن يخضع الشخص في عملية احتسابه للقوانين المرعية من المؤسسات المعنية المكلفة بوظيفة الاحتساب، والثاني أن يحبس الإنسان نفسه على فكره واعتقاداته وينطلق منها منفردا إلى تنفيذ ما يراه هو وحده حقا لا يدانيه حق ومن رفض هذا الحق أو قننه فهو مرتكب لباطل.
وقد حدث هذا (الاحتباس) في أكثر من مناسبة وأدى إلى كوارث كان من الممكن ألا تحدث لو أن العقل كان سيد الموقف حينها وليس العاطفة المندفعة التي لا تقدر للأمور قدرها. لقد وصل الحال (بالمحتبسين) أنهم نظموا احتفالات شوارعية علنية في حق بعض الأشخاص، رجالا ونساء، اتضح بعد ذلك أنهم أبرياء. وحتى لو لم يكونوا أبرياء لم يكن من الاحتساب في شيء أن يجري التكبير والتهليل العلني على أخطائهم أو ارتكاباتهم بمثل هذه الصور التي تفزع المجتمع وتقض مضجع أمنه وسلامته التي بدونها لا يعود مجتمعا سويا.
لست ضد الاحتساب بأي صورة من الصور طالما هو مقنن ومضبوط باللوائح وخاضع لممارسة المعتمدين المفوضين رسميا بأداء هذه الوظيفة؛ الذين يثابون إذا أحسنوا ويعاقبون إذا أخطأوا. لكنني بالتأكيد، وبدون أدنى تردد، ضد الاحتباس الذي يضع الناس، جملة وتفصيلا، في مواقع الريبة ويطاردهم في خصوصياتهم ويفتش قلوبهم ويفرض عليهم وجهات نظر شخصية بحتة فيما هو داخل في باب المعروف وما هو داخل في باب المنكر.
وقد قلت من قبل إن هناك قضايا دينية خلافية يجد فيها الإنسان سعة في الممارسة والتصرف، لكن ما حدث لفترة طويلة أن (المحتبسين) اعتبروا هذه القضايا مسلمات أو مفروغ منها من وجهة نظرهم فأرادوا، وما زالوا، أن يسلم بها الناس كما سلموا بها بغض النظر عن كل ما يساق من أدلة وبراهين على تعدد الاجتهادات والآراء فيها. أي أن الغاية لدى هؤلاء تحولت من النصح، الذي هو فيما أعرف أصل الاحتساب، إلى العسف والإجبار، بل وأحيانا الاعتداء الصارخ على الناس واختياراتهم تحت طائلة أنه يجوز للشخص، طالما عد نفسه محتسبا، أن يفعل ما يشاء ولا يسأل أو يحاسب.
والمؤسف أن هؤلاء الأشخاص (المحتبسين) وجدوا من يدافع عنهم وينافح عن ارتكاباتهم التي إما أن تبقى على ما هي عليه أو أننا نتهاون في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولهؤلاء أقول إن من باب ممارستكم لهذه الشعيرة وأماناتها أن تتفقهوا مجددا في أصولها وغاياتها. وأن تقلعوا عن وضع أنفسكم في مواضع التنظير والتأطير لهذه الشعيرة دونا عن غيركم. لكم وجهة نظر وللآخرين وجهات نظر، حيث لا يوجد من ينكر الاحتساب ويفترض ألا يوجد من يقول إنه أعلم من غيره بشروط وممارسات الاحتساب؛ والفيصل بين الجميع هو القوانين التي تؤخذ على أساس من الدراسة والتأني والتدبر، وتقر على أساس من المصلحة العامة التي ترعاها الدولة كما ترعى كل شأن اجتماعي.
محمد العصيمي- وكالات-