دعوة » مواقف

عندما كانت السيارة.. سحًرا

في 2016/08/02

يروي هادي آل منصور ­ وهو الشاهد على زمن الملك عبد العزيز ­ كيف تلقى المجتمع آنذاك اختراع «السيارة»٬ وحين شاهدوا الملك لأول مرٍة يهّم بالركوب بغية التجّول بها في أحياء الرياض٬ خافوا عليه٬ ورددوا أن هذه السيارة ليست إلا ضرًبا من السحر٬ وستأخذ منهم إمامهم عبد العزيز إلى المجهول٬ وكان التعّجب الأساسي ماثلاً في أذهانهم: كيف يمكن للحديد أن يمشي بنفسه؟!

مثل هذه القصة تحدث في أي مجتمع بالشرق والغرب٬ غير أنها تجلّت أكثر بسبب حداثة المجتمع السعودي على خوض التحّولات٬ ونظًرا لموقعه الجغرافي نسبًة إلى المجتمعات النهرية الأخرى في الشام ومصر. العالم الإسلامي الآن متشابه بمشكلاته مع العصر٬ فالأزمة في الخطاب الديني٬ والتعليم٬ والعلاقة مع الآخر٬ وتصّورات الواقع والحداثة٬ مشتركة بين المسلمين من إندونيسيا إلى أقصى المغرب.

يؤثر الاقتصاد على تحّول المجتمعات٬ وقد أسهم النفط كثيًرا في رفع مستوى الوعي٬ والتعليم٬ وتحسين مستوى سعادة الإنسان٬ لكن على النقيض قد تسهم الثروات في تباطؤ حركة التغيير٬ بسبب الطفرات المادية التي تسهم في خفض كفاءة الإنسان في إدارة موارده ومداخيله٬ كما أنها تساعد على تربية القناعات المتوارثة٬ وحراسة ما هو قائم٬ فللثروة ضرائبها الثقافية٬ لكن هذا التحليل لا يدخل على خّط الهجاء للموضوع النفطي٬ كما يفعل بعض المثقفين العرب في هجائهم الآيديولوجي للنفط «أيها النفط٬ كم أنَت مفسد».

لقد أفسدت الطفرات بقدر ما أثمرت٬ وأنتجت أسسها بقدر ما هّشمت قيًما ضرورية في المجتمعات العربية والإسلامية.

لن يستمر النفط في تحّكمه بالاقتصاد والمجتمع٬ بل سيتم تجاوز ذلك «الإدمان النفطي»٬ كما هو وصف الأمير محمد بن سلمان٬ ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع٬ بل ستجرى تغييرات هيكلية٬ لإيجاد موارد أخرى تردم الثغرات الكبرى التي سببها الاعتماد المطلق على النفط٬ وهو مردود ناضب على المستوى الاقتصادي٬ ودافع نحو الاتكالية والركون على المستوى الاجتماعي والثقافي.

توماس سويل (ولد عام 1930) في كتابه «تناقض الرؤى ­ الجذور الآيديولوجية للصراعات السياسية»٬ يقول عن التحّولات الاجتماعية: «تتضمن التبدلات الاجتماعية سلسلًة واسعًة جًدا من الأمور٬ من اللغة إلى الحروب٬ ومن المسائل العاطفية إلى الأنظمة الاقتصادية٬ ويتجلّى كل أمٍر من هذه الأمور بأشكاٍل كثيرة ومتنّوعة٬ إلا أن للتحولات الاجتماعية العامة خصائص واحدة ومشتركة٬ سواء نظرنا إليها من منظور التصّور المقيد٬ أو من منظور التصّور الحر٬ فهناك طبيعة خاصة لهذه التحّولات٬ أي أن لديها تسلسلاً معيًنا٬ سواء كان هذا التسلسل مصمًما عن قصٍد أو عن غير قصد٬ كما أن عملّيات التحّول الاجتماعية تستغرق وقًتا٬ وتترتب عليها نتائج عدة».

يمكن لأي مجتمٍع أن يتحّول عن طريق الأسس الاقتصادية التي ترسمها القيادة السياسية٬ وهذا هو مربط الفرس٬ لأن النخب الثقافية لا تستطيع أن توّجه المجتمعات٬ ومنذ نصف قرن والتيارات تخفق في توجيه المجتمع٬ أو التأثير عليه.

من هنا٬ يأتي الدور السياسي القيادي في التغيير الثقافي٬ ولكن عبر أكثر من وسيلٍة٬ وأكثر السبل إقناعا للمجتمع بتغيير بعض قناعاته ذلك السبيل الاقتصادي الحيوي. من هنا٬ تأتي حالة التقّبل لموضوعات الترفيه٬ وحقوق المرأة٬ وتغيير هيكلية التعليم٬ فكلها ذات ترابط بين الاقتصادي والثقافي٬ ولكن ليس فقط بالكتب والنظريات تدار التحّولات الاجتماعية.

مضى على قّصة الملك عبد العزيز مع مرافقيه الذين خافوا عليه من «سحر السيارة» قرابة القرن من الزمان٬ وقد عاش المجتمع السعودي٬ كغيره من المجتمعات الإسلامية الأخرى٬ تحّولاته٬ لكن طبيعة المجتمعات أنها تتغير من دون أن تشعر٬ وهذه طبيعة سوسيولوجية٬ الفرق أن التغيير القادم سيكون أكثر جديًة٬ ومتانًة٬ وترابًطا٬ ضمن توازنات سياسية٬ واقتصادية٬ وثقافية.

تركي الدخيل- الشرق الأوسط-