مع حماسة الربيع العربي، تكاثرت الأصوات المبشّرة بانحسار ظاهرة "الإرهاب" أو نهايتها، والمعتقدة بأفول تنظيم القاعدة (منهم كاتب هذه السطور). وسط الأجواء الحماسية، يبدو سهلاً الحديث عن حلول لكل المشكلات، ومع ملامح التغيير التي كانت تلوح في الأفق، يمكن للانسياق وراء الأمنيات بغدٍ أفضل يجلبه التغيير، أن يدفع إلى القفز إلى استنتاجاتٍ غير دقيقة، منها أن بناء أنظمةٍ ديمقراطية، تتمتع بحرياتٍ كبيرة، يمكنه أن يؤدي إلى تراجع الإرهاب، أو يكتب نهايته.
بينت الأحداث، في السنوات الماضية، خطأ هذا التفاؤل، ويبدو أن بعض المتفائلين نسوا أن الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، سبقهم إلى تبني نظرية محاربة الإرهاب بالديمقراطية، والتي انتهت إلى فشلٍ ذريع. مع ذلك، لا زالت بعض الطروحات، المؤمنة بالديمقراطية، تقدّمها حلاً نهائياً وشاملاً لكل المشكلات، وتعزو تكاثر الأعمال الإرهابية إلى غياب الديمقراطية ومحاربة الربيع العربي.
ليست الديمقراطية أيديولوجيا خلاصية، كما يطرحها بعض المتحمسين لها والمبشّرين بها، فهي ليست الحل لكل الإشكالات، ولا غيابها هو سبب أزماتنا، ولا علاقة مباشرة للديمقراطية بكثير من القضايا الأساسية في بلداننا، فالتنمية تحتاج إلى مشروع اقتصادي متبصر، ولا يتعلق هذا بالديمقراطية، كما أن تحرير الأراضي المحتلة يحتاج إلى إرادة سياسية تنزع نحو الاستقلال، وإعداد عسكري جيد، ولا علاقة للنصر أو الهزيمة العسكرية بأن النظام ديمقراطي أو استبدادي.
ينطبق الأمر نفسه على محاربة الإرهاب. الديمقراطية مطلوبة لتحل مشكلة الاستبداد السياسي، وتعطي فرصةً لتداول السلطة، وتنظيم الخلافات داخل المؤسسات، بدلاً من تحويلها مسوغاً للاحتراب الأهلي، لكنها ليست "الحل"، على طريقة "الإسلام هو الحل"، وسوى ذلك من الشعارات.
بالنسبة إلى علاقة الديمقراطية بالإرهاب، تنطلق المحاججة المتمحورة حول أهمية الديمقراطية في مواجهة الإرهاب، من فكرة قمع الحريات، وعدم السماح بالتعبير السلمي عن الرأي والتوجه السياسي، وهو ما يدفع أشخاصاً إلى العمل السري والتطرف، وتحويل غضبه من النظام السياسي إلى عملٍ عنفي ضده، وضد المجتمع أيضاً.
يذهب بعض هؤلاء بهذا التفسير بعيداً، ليصبح تبريراً للأعمال الإجرامية، والجماعات الإسلامية العنفية، إذ إنها تقوم برد الفعل على الاستبداد، وهي ليست مسؤولةً عنه، ولابد من توجيه أصابع الاتهام إلى الأنظمة المستبدة، لأنها صانعة رد الفعل هذا، وهو في عرف هؤلاء رد فعل ميكانيكي، لا قدرة لمن يقوم به على منع نفسه عنه.
لنترك التبرير للجماعات الإجرامية جانباً، ولنركّز على النقطة الأولى، المتعلقة بالربط بين الاستبداد وتغييب الحريات وإغلاق أبواب العمل السياسي السلمي، والتوجه إلى استخدام العنف ضد الدولة والمجتمع. لم يثبت أن وجود الديمقراطية والحريات يتسبب بانحسار "الإرهاب"، أو يقضي عليه.
نعود، هنا، إلى منطق إدارة بوش في غزوها العراق، إذ كانت تحاجج بأن إزالة نظام الرئيس صدام حسين، وإقامة نظام ديمقراطي بديل، ضروريٌّ في الحرب على الإرهاب التي تشنها الولايات المتحدة، وردّد هذا الكلام كتاب ومحللون أميركيون، مثل توماس فريدمان، وروّجه بعض الليبراليين العرب. في مقالٍ كتبه لمجلة فورين أفيرز، تحدّث غريغوري غوس عن زيف الربط بين الديمقراطية ومكافحة الإرهاب، وأورد دراساتٍ تشير إلى عدم وجود رابط بين الأمرين، ليحاجج توجه إدارة بوش لنشر الديمقراطية في مواجهة الإرهاب.
لا بد من التنويه إلى أن هذه الدراسات لا تحوي تعريفاً واضحاً ومحدّداً للإرهاب، أو أنها تعتمد على تعريفه بشكلٍ فضفاض، يشمل حركاتٍ تحرّرية ضد الاحتلال، أو حركاتٍ لا تستهدف المدنيين. لكن، من الواضح في النتائج التي تصل إليها، أنه لا علاقة بين الديمقراطية وأعمال العنف السياسي.
يشير غريغوري غوس إلى دراسةٍ عن الأعمال الإرهابية في ثمانينيات القرن العشرين، أنجزها وليام يوبانك وليونارد وينبرغ، تؤكد أن معظم الحوادث الإرهابية حصلت في دول ديمقراطية، حيث الجناة والضحايا مواطنون في هذه الدول. يورد غوس تقرير الخارجية الأميركية "نماذج الإرهاب العالمي"، شاهداً لغياب الارتباط بين تكاثر الإرهاب والاستبداد.
فبين عامي 2000-2003، حصل 269 عملاً إرهابياً في دول صنفها التقرير أنها "حرّة"، مقابل 119عملاً في بلدان "متحررة جزئياً"، و138 في بلدانٍ لا حرية فيها. في التقرير إشارة إلى أن 203 أعمال إرهابية وقعت في الهند "الديمقراطية" في تلك الفترة، في حين لم يحصل في الصين "الاستبدادية" عمل واحد.
بعد الربيع العربي، ومقتل أسامة بن لادن، ظننا أن "الإرهاب" ينحسر، لكنه ما لبث أن عاد، وفي الدول التي عاشت أجواء تحوّل ديمقراطي، مثل مصر، كانت الحكومة المنتخبة تعاني من عمليات التفجير في سيناء. وفي تونس، لم يوقف التحول الديمقراطي نزوع مجموعاتٍ من الشباب نحو "التدعشن"، ولا سلمت البلاد من العمليات "الإرهابية". في فرنسا، يقوم مواطنون فرنسيون مولداً ونشأة بتنفيذ أعمال إجرامية، على الرغم من وجود الحريات، وعدم سد أبواب العمل السلمي هناك. ينطبق هذا على دول أوروبيةٍ ديمقراطية أخرى، لا تسلم من مثل هذه الأعمال.
لظاهرة "الإرهاب" أسبابٌ متعدّدة، وهي أعقد من هذه الطروحات التبسيطية، ويمكن دراسة الأسباب باستفاضةٍ واقتراح عدد من الحلول، كما أن الديمقراطية مطلب لشعوبنا، لكن، لا ديمقراطية تبنى وطنياً، ولا أخرى مفروضة من الخارج، تشكل "الحل" لمكافحة الإرهاب.
بدر الإبراهيم- العربي الجديد-