تحولت شبكات التواصل الاجتماعي من منصات يستخدمها "المهمشون" للتعبير الحر عن الرأي، إلى بيئات يمارس فيها ذات هؤلاء "المهمشين" سطوتهم ضد بعضهم البعض، وضد الآخرين، معيدين إنتاج الاستبداد بآليات وأشكال مختلفة.
هذا الحضور لـ"العدوانية" عبر المنصات الاجتماعية، يتخذ تعابير متنوعة، تتمظهر في الخطابات ذات النزعات الطائفية والعنصرية والتخوينية. وجميعها تؤثر بشكل مباشر على المجتمع وأفراده. أي أن هذه الخطابات التي تنتج في واقع افتراضي، تؤثر في الواقع المادي الحقيقي والفعلي، كونها معدة وموجهة من أطراف حقيقيين، وتستهدف التأثير في محيط فيزيقي، وليست مجرد ممارسات افتراضية لا فاعلية لها.
بشكل يومي نجد "هاشتاقات" تدشن مستهدفة أفرادا أو جماعات أو مؤسسات رسمية أو مدنية، أو تستهدف دولا وأحزابا ومذاهب، يكون المنشئون لهذه "الأوسمة" إما شخصيات وهمية غير معروفة، أو أفرادا وقيادات محزبة أو مسيّسة أو ناشطة على الإنترنت، لها جمهورها الذي يتابعها بشكل متواصل، ويكون نشطا في هذه الحملات، مؤيدا ما يطرح، وموجها نقده وشتائمه للجهة المراد تسقيطها أو توهينها أو الافتراء عليها.
إن وجود "حملات" على الإنترنت هو حق مشروع لأي فرد أو جماعة، إذا ابتعدت عن التحريض والتخوين وتزييف الحقائق، إلا أن ما نلحظه أن الغلبة هي لـ"سطوة الرعاع" عندما تنفلت من عقالها، فلا يكون للعقل قيمته، ولا تحترم حينها القوانين التي تنظم حرية التعبير، وتمنع الاعتداء على الآخرين. فيكون "الغوغاء" هم قادة الركب، فيما من لديهم الحكمة والوعي يختبئون بعيدا، خشية أن يكونوا ضحايا بائسة ومجانين لحفلات الجنون المتواصل!.
إن العقلاء ينبغي عليهم عدم الخشية من هذا النوع من الخطاب الفتنوي، وعليهم ألا يخشون من مواصلة دورهم التنويري في إنتاج المعرفة وتعزيز قيم الحرية واحترام حقوق الإنسان، وترسيخ مفهوم سيادة الدولة المدنية، بعيدا عن كل إكراهات الخطابات الأصولية.
الحملات التحريضية على "تويتر" تريد أن تُخضع الرأي العام لمنطقها، وتحاول أن تكون سلطة بديلة. وهي في سعيها هذا لديها مشكلة حقيقية في فهم معنى حرية التعبير، ومشكلة أخرى تتعلق بنظرتها إلى الآخر وعلاقتها معه.
إن حرية التعبير حق مكفول للجميع، ولا ينبغي الحد منه تحت أي ذريعة مفتعلة. إلا أن التحريض على حمل السلاح وعلى العنف والكراهية والتكفير والخطابات الطائفية، جميعها ممارسات لا تدخل نطاق "حرية التعبير"، بل وتتعارض مع "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، وهي وفق هذا النظام تصنف بوصفها جرائم يعاقب عليها القانون.
التحريض أيضا هو انتهاك لوجود "الآخر"، وسلب لحقوقه، ما يعني أن "الحرية" المدعاة تفقد معناها وجدواها، لأنها تمارس بانتقائية نفعية، فتمنح للذات، وتمنع عن "الآخرين".
"إن التحريض على العنف يحدث بفرض هويات منفردة وانعزالية وعدوانية، يناصرها ويؤيدها محترفون بارعون للإرهاب، على أناس بسطاء وسذج"، كما يقول الفيلسوف أمارتيا سن.
وهو ما يمكن ملاحظته عند تتبع الأشخاص والجماعات التي تقف خلف العديد من الحملات التحريضية المنظمة على "تويتر"، وهي حملات ليست بريئة كما تحاول أن تصور ذاتها، بل يمكن الجزم بأن أكثرها منظمة وموجهة ولها أهداف وغايات محددة، وهي ما يمنحها مزيدا من الزخم والقوة.
الجماعات المتطرفة ومعها الغوغاء يريدون للمجتمع أن يبقى حبيس صندوقهم الأسود المعتم، ولا يريدون لأي فكر تنويري مستقل ومختلف أن ينهض ويمارس دوره في التثقيف والبناء والتنمية، وترسيخ القيم المدنية. وهو التحدي الذي على النخب أن تقوده بشجاعة، كي لا يسرق "الظلاميون" مستقبل الأجيال وحيواتها، ولكي لا نبقى تائهين في بقعة مظلمة لا نهتدي فيها إلى سبيل.
حسن المصطفى- الرياض السعودية-