ما هي العلاقة بين الإرهاب ومستقبل الشباب؟ أو كيف يرمي الغلو والتطرف الفكري بتداعياته على هذه الفئة العمرية من المجتمع؟
بداية، يُمكن تعريف الإرهاب -في سياق تحليلي معين -على أنه ظاهرة اجتماعية المنشأ، سياسية التأطير، أمنية التجلي.
إننا بصدد ظاهرة ذات تكوين معقد، مركب أو توليفي، ترمي بتداعياتها على المجتمع والدولة والأمن القومي.
وفي أحد أبعادها الأكثر مركزية، تبدو هذه الظاهرة على صلة وثيقة بواقع الشباب ومستقبله.
إنها تصبو إليه، وتستهدف فكره وخياراته، وترتكز إلى مواهبه وطاقاته الكامنة.
العلاقة بين الغلو (والتطرف والإرهاب)، وبين الشباب هي علاقة سلبية ومدمرة في المطلق، ومتى ما كنا بصدد حماية هذه الفئة من المجتمع، وصون مستقبلها، فلا بد من بذل كل الطاقات المتاحة من أجل إبعادها عن الأفكار والتيارات المتطرفة والجانحة.
إن فئة الشباب هي الوسط الذي لا ينمو الإرهاب أو يزدهر دون التأثير فيه وقلب سلم أولوياته.
وقلب أولويات هذه الشريحة الاجتماعية قد يكون أكثر تداعيات الإرهاب قسوة بالنسبة لحاضر المجتمع ومستقبله.
وفي الأصل، فإن الأوطان لا تزدهر دون طاقات شبابها. وهي تغدو أول الخاسرين في اللحظة التي تنحرف بوصلة أولوياتهم.
وإن مقاربة هذه القضية تبقى على علاقة بالسياسات والخطط الكبرى لكافة الدول.
وبالعودة إلى السؤال الاستهلالي الذي بدأنا به هذا المقال، يُمكن الوقوف على منظومة تداعيات كبيرة على الشباب، ذات صلة بالإرهاب، بأشكاله وتجلياته المختلفة.
يتمثل أول هذه التداعيات في سلخ الشاب عن فطرته التي فطره الله تعالى عليها كإنسان يحب الخير ويكره الشر.
وهذه نتيجة خطيرة، تنزع عن الإنسان انسانيته، وتحوّله إلى شخص شرير لا أمان له. وإن هذه الخلاصة تكفي بحد ذاتها لأن يخسر المجتمع فرداً من أفراده، بل وقد يغدو وبالاً عليه.
إن نتيجة من هذا القبيل لا تمثل مجرد تحوّل في الخيارات الشخصية، أو السلوكيات الخاصة، بل تعبر عن انجرافٍ للطباع الإنسانية وانزلاق إلى نقائضها.
ثاني التداعيات، أو المؤثرات، تتجلى في زرع الوجل والريبة في نفس الفرد تجاه مجتمعه، وخلق غربة نفسية وفكرية لديه، على نحو يحول بينه وبين القدرة على الاندماج الصادق في المحيط، بمستوياته المختلفة.
إن الأفكار الجانحة متى وجدت في الفرد فإنها تشكل جداراً متيناً بينه وبين الآخرين. إنه يرى فيهم حينها قوى متباينة أو متناقضة، غير جديرة بالحب والإلفة، وربما استحقت العداء الصريح، وحتى المواجهة – على النحو الذي يحدث بالفعل في مراحل متقدمة في مسيرة الغلو والتطرف.
ثالث المؤثرات، يتمثل في نكران الذات الوطنية، أو تحريف مضمونها.
في منطق الغلو وأصوله، لا توجد ذات وطنية أساساً. لا يوجد شعب بخصوصيته التاريخية والجغرافية، ولا توجد دولة لها رسالتها وفلسفتها الجامعة، بل هناك أقوام وملل وأعراق متناثرة.
هذه الرؤية، القابعة خلف التاريخ، تمثل النقيض التام لفلسفة الدولة، واستتباعاً الوحدة الوطنية التي تنبع منها وترتكز عليها.
هذه الخلاصة تعني، فيما تعني، استعداء الاجتماع العام، بكل صوره وأشكاله.
لاحظوا، أننا هنا بصدد مسألة بالغة الخطورة.
إن عدم الايمان بالوحدة الوطنية، أو المس بها، يعني تعدياً صريحاً على الأمن القومي. فهذا الأمن لا يستقيم بالفرقة والشقاق الأهلي، ولا باستبدال الهوية الوطنية الجامعة بالانتماءات الرأسية، بل هذه غواية لا يجوز لأحد الانزلاق إليها.
إن منطق الغلو لا يمكن أن ينسجم بحال من الأحوال وفلسفة الهوية الجامعة، فهو في الأصل منطق فرقة وشرذمة، مناقض للثوابت الوطنية وناسف لها.
رابع المؤثرات يتمثل في ضياع بوصلة أولويات الشاب واهتماماته.
إن فكر الغلو يلغي بالضرورة ما هو طبيعي ومؤتلف مع صيرورة النفس والعقل، ويشوّه خيارات عقلانية وراجحة، ويقدم ما هو غريب مناف للمصالح المشروعة للفرد، كما المصلحة الوطنية العليا.
في هذا السياق، يُمكن للمرء أن يلحظ الكثير من الظواهر الغريبة، على مستوى الخيارات الشخصية، التي التصقت بالشباب المتأثر بفكر الغلو والتطرف.
لاحظوا، هناك شرذمة عائلية. عزوف عن بناء الأسرة، أو هدم للأسرة القائمة، أو توريط لها، بذرائع لا تصمد ومنطق الدين والعقل. انظروا كم هي الأسر المنكوبة التي غدت ضحية خيارات شاب طاش بفكر الغلو، وتخلى عن دوره وأمانته، وساقه الهوى إلى دروب الشر والمهالك.
وتأملوا أيضاً كم هم الذين تركوا نعيماً أغدقه الله تعالى عليهم، وارتضوا بدلاً عنه مسالك غابرة، لا دين فيها ولا دنيا صالحة.
وكم هم الذين غادروا أهلهم، واستجلبوا غضب والديهم، وسخط ربهم، فالمرء لا يجوز له التنكر لوالديه، ولا التسبب في ايقاعهما في حزن مقيم. ومعصية الوالدين معصية صريحة لله تعالى، ولا جدال في ذلك أبداً، وإن رأي هذا المسمى زوراً بالزعيم، القابع في محل قصي، لا يصح أن يتقدم رأيَ والديْن صالحين، بذلا العمر من أجل تربية انسان حتى شاب وبلغ رشده.
ومن يأتي يا ترى ببرهان من القرآن أو السنة يجيز ذلك؟
لا يوجد برهان. ومن قال خلاف ذلك فقد كذب على الله ورسوله، واستوجب اللعنة وسوء العذاب.
ومن جهة أخرى، فإن الذين ارتدوا فكر الضلال قد أضاعوا كذلك جيلاً ما زال فتياً أو في المهد صبيا. إنه جيل أبنائهم الذين تركوا لقدرهم، يلتحفون حزن أمهاتهم الثكالى.
ومن المسؤول عن هؤلاء، ومن يمكنه ضمان حياتهم الكريمة؟
بعض هؤلاء الصبية أو الأطفال فقدوا الأب والوطن معاً، وتركوا في مجاهل وهيدة لا يعلم مداها إلا الله تعالى.
وهل هناك من دين أو عقل يقبل بذلك أو يرتضيه؟
إنه مرة أخرى تزوير النصوص، وإعادة تفسيرها، بما يتوافق وهوى النفس، وغلو المنطق، وضلال السبيل.
وفي الخلاصة، فقد أسقط أهل الغلو والتطرف سلم أولوياتهم الشخصية والوطنية معاً، وباتوا ضحايا منطقهم الجانح، بعد أن باتت الأمة بأسرها ضحية أعمالهم وصنائعهم المنافية للدين والعقل، وهذه هي عاقبة من ارتضى طريق الضلال. لا يحتاج المرء إلى كثير عناء ليدرك خطر الغلو والتطرف على شباب الأمة. والمطلوب التذكير الدائم بالأخطار ليحتاط الجميع، ويحذروا غواية قوى التطرف، وتضليلها، وتجميلها الزائف للواقع المر الذي أوقعت فيه اتباعها، ممن تمكنت يوماً من التغرير بهم، وإنزالهم من رفعة الخير إلى وهدة الشر، وسوء العاقبة.
إن المطلوب دائماً هو توضيح العواقب كما المقدمات. والمطلوب تبيان المؤشرات القائمة، فذلك خير من الكثير من الخطب. وقد تكون هناك خصوصيات لا يجوز الخوض فيها حفاظاً على كرامة الأسر؛ بيد أن هناك أيضاً الكثير مما يُمكن توضيحه في سياق الصالح الاجتماعي العام، الذي لا مضرة فيه لأحد.
وهذه هي مهمة الوعاظ والمربين، وكل المتنورين في المجتمع، الحريصين على مستقبل أبنائه.
إن العلاقة بين الغلو (والتطرف والإرهاب)، وبين الشباب هي علاقة سلبية ومدمرة في المطلق، ومتى ما كنا بصدد حماية هذه الفئة من المجتمع، وصون مستقبلها، فلا بد من بذل كل الطاقات المتاحة من أجل إبعادها عن الأفكار والتيارات المتطرفة والجانحة.
وبالطبع، فكل مجتمع له خصوصياته، وهذه الخصوصيات تفرض أنماطاً محددة من سبل الوقاية والعلاج. وعلى الرغم من ذلك، هناك خيارات جرى تجريبها في أكثر من منطقة من مناطق العالم وأثبتت نجاعتها وجدواها.
ومن الراجح التأكيد عليها. هذه الخيارات يجري الأخذ بها الآن في دول غربية وإسلامية مختلفة، وهي تؤكد حقيقة أن رعاية الشباب هي في الأصل قضية عالمية. ونحن بالطبع مدعوون للإفادة من كل ما هو جديد.
وقد يقول قائل إننا في الشرق الأوسط أكثر المعنيين بقضية التطرف. وقد يكون هذا صحيحا بوجه ما، لكن الصحيح أيضاً أننا بصدد كم كبير وتراكمي من التجارب العالمية. وهناك معاهد ومراكز أبحاث قد وضعت ميزانيات كبيرة لتحليل هذه الظاهرة، وخرجت بنتائج متتابعة، وأعلنت عنها، ونشرت أبحاثها لعامة المهتمين. ومن المنطقي أن نستفيد منها، فالمعرفة حق للجميع.
وخلاصة، إن النجاح في صون الشباب، والنأي بهم عن الغلو والتطرف، هو نجاح للمجتمع عامة. وهو مكسب للوطن وأمنه القومي.
عبد الجليل زيد المرهون-