الأفكار ونقد الأفكار دونما قيود إلا قيود العقلانية والمنطق، هي الأساس التي ترتكز عليها الحضارة المعاصرة. ولا يمكن اليوم لأي دولة أن تحقق ولو قدراً قليلاً من التنمية والتقدم الحضاري ما لم ترتكز على هذه المعادلة. ومن يرصد طريقة وأسلوب التعامل مع الأفكار يجد أن النقد، وبالذات نقد التراث الفقهي، هو في معاييرنا رجس من عمل الشيطان، من اقترب منه، ترتفع الأعناق وتشمخر السيوف، معلنة الغضب الذي لا يبقي ولا يذر.
داعش - مثلاً - لم تنزل علينا من المريخ، ولم تكن نبتة شيطانية نبتت في غفلة من الزمن في البيئة العربية، وإنما كانت نتاجاً طبيعياً لعدم (نقد) تراثنا، ومقولات ومنتجات واجتهادات بعض فقهائنا التراثيين.
ولكي لا ندفن رؤوسنا في التراب، فإن كل ممارسات الدواعش الحياتية لها أصول مدونة من مدونات تراثنا، ولأننا لم نعرضها للنقد، ولم نواجه مقتضيات تنفيذها، جاء الدواعش، وأنزلوها من الكتب التراثية، وطبقوها على الأرض؛ أي أنهم لم يخترعوا فكراً فقهياً جديداً ابتدعوه، ولكنهم - فقط - قاموا بتفعيل التراث الفقهي الموروث والمدون من الفقهاء الأقدمين.
وأنا هنا لا أعني القضايا الدينية وإنما أعني القضايا الدنيوية، التي قال فيها الأقدمون حسب متطلبات عصرهم لا عصرنا؛ وغني عن القول إن أوضاع الناس وأحوالهم متغيرة، لا تبقى على حال، بينما أن القضايا الدينية وبالذات العبادية التي تختص بعلاقة الإنسان بربه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل عبر الزمان والأمكنة؛ فالله جل شأنه يُعبد اليوم كما يعبد قبل ألف وأربعمائة سنة، كما يعبد في مكة المكرمة مثلما يُعبد في أي مكان آخر. غير أن الحياتيات تختلف وتتغير بتغير الزمان والمكان.
فقول الفقيه في شؤون الحياة ينطبق على زمنه ولا يمتد لأي زمن آخر إلا في شؤون العقيدة والعبادة، وبالذات زمننا، الذي يختلف اختلافاً جوهرياً عن زمن الأسلاف. فتراث ابن تيمية الفقهي - مثلاً - يجب أن نعيد قراءته قراءة متفحصة نقدية، فما كان يخص الشؤون العقدية والعبادات المتعلقة بالأمور الدينية، وكذلك الماورائيات التي لا يمكن إدراكها بالعقل، ولا سيبل للوصول إليها إلا بالنقل، قبلناها، وأما شؤون الحياة ومصالح الناس فليس بالضرورة أن ما يحتوي تراثه من مقولات ومقاربات وفتاوى نكون ملزمين بها. وهذا المعيار لا يقتصر على ابن تيمية أو على تلميذه ابن القيم، وإنما ينطبق على كل فقهاء الماضي القريب والبعيد؛ فالأصل أن الحكم على الأمور جزء من تصورها كما يقول فقهاء أصول الفقه في معاييرهم، فكيف يمكن عقلاً أن نستقي رأياً فقهياً من فقيه لم يعاصر زمننا ولم يتعامل مع متغيراته؟
وفي تقديري أننا متى ما فرقنا بين ما هو ثابت لا يتغير وبين ما هو متغير بالضرورة، بل ويجب أن يتغير، ويواكب الأزمنة والأمكنة ويدور معها ويتماهى مع متطلباتها، نكون قد وضعنا أقدامنا على أول طريق التصحيح والتجديد، وإلا فإن الأسباب الموضوعية التي أنتجت (داعش) ستنتج غيرها مرات ومرات.
محمد آل الشيخ- الجزيرة السعودية-