فوجئ العالم الإسلامي بمؤتمر إقصائي عقد في مدينة غروزني عاصمة جمهورية الشيشان، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، بين 25 و27 آب (أغسطس) الماضي، تحت عنوان عريض ظاهر الاضطراب في مفرداته، هو: «مَن هم أهل السنة والجماعة: بيان وتوصيف لمنهج أهل السنة والجماعة اعتقاداً وفقهاً وسلوكاً وأثر الانحراف عنه على الواقع». وكانت السمة المميزة للمشاركين أنهم من أتباع الطرق الصوفية، وفي طليعتهم وبشكل لافت للنظر، الشيخ الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر. وعقد المؤتمر بينما كان الطيران الروسي الحربي يقصف بلا هوادة المدنيين السوريين، ويمعن في تدمير مدينة حلب، وفيما تفرض الدولة الروسية هيمنتها الكاملة الباطشة على النظام السوري، في تناقض صارخ مريب يطرح علامات استفهام كثيرة حول الجهات الممولة لهذا المؤتمر، وأهدافه المشبوهة.
فهو يكاد يكون عُقد خلسة، وفي عجلة، للوصول إلى غايات مستعجلة. فلم يعلن عنه في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، ولم توجه الدعوة لمنظمات العالم الإسلامي الكبرى، كمنظمة التعاون الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، والإيسيسكو، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي وغيرها. كما أن من المريب عقده في مدينة صغيرة في جمهورية لا أهمية إسلامية لها تابعة لروسيا، لتطرح فيه إحدى القضايا التي انشغل بها الفكر الإسلامي طيلة عصور، ولا تزال موضوع بحث ونظر من ذوي الاختصاص الذين يخدمون الإسلام، ويحرصون على حماية العالم الإسلامي من التمزق.
لقد صدر عن المؤتمر بيان ختامي إنشائي متهافت. فهو لم يعالج هذه القضية بإنصاف، ولم ينته إلى رأي حكيم وموقف سليم، لكنه زادها تعقيداً وغموضاً، حين نصَّ في فقرته الأولى على أن «أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والمعتدلون من الحنابلة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علماً وأخلاقاً وتزكيةً على طريقة سيد الطائفة الإمام الجنيد ومن سار على نهجه من أئمة الهدى».
ثم أضاف أن «منهج أهل السنة والجماعة هو أجمعُ وأدق مناهج أهل الإسلام وأتقنها، وأشدها إحكاماً». وهذا كلام فاقد أي معنى علمي يقرب الفكرة إلى الأذهان، وإنما هو يعمق الخلاف بحصره أهل السنة والجماعة داخل هذه الدوائر المغلقة، متجاهلاً الواقع الحي، ومتجاوزاً الحقائق التاريخية. وذلك هو الهدف المشبوه الذي يضرب وحدة أهل السنة والجماعة وأصول عقيدتهم التي جاء بها الرسول وسار على هديها صحابته وأئمة المذاهب الأربعة قبل مجيء أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي اللذين حصر المؤتمر العقيدة في أقوالهما دون أقوال غيرهما من العلماء، كالفقيه الحنفي المصري أبي جعفر أحمد الطحاوي والفقيه الحنبلي الشامي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
لقد ضاعف البيان الختامي الأزمة التي أثارها، حين ألغى عدداً مهماً من المؤسسات العلمية الإسلامية ذات التاريخ المشهود به، فأوصى بـ «ضرورة رفع مستوى التعاون بين المؤسسات العلمية العريقة كالأزهر الشريف والقرويين والزيتونة وحضرموت، ومراكز العلم والبحث في ما بينها، ومع المؤسسات الدينية والعلمية في روسيا الاتحادية»، متجاهلاً الحرمين الشريفين اللذين كانا عبر التاريخ ولا يزالان، يقومان مقام المؤسسات العلمية الإسلامية، حيث تعقد فيهما حلقات الدرس العلمي منذ فجر الإسلام، وتجاهل أيضاً الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، والجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، والجامعة المستنصرية في بغداد وغيرها.
هذا المؤتمر المشبوه قال عنه الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر: «إنه جميل تُسديه الشيشان إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل إلى العالم كله شرقاً وغرباً، وتساهم به مساهمة جادة في إطفاء الحرائق والحروب اللاإنسانية التي تتخذ من أجساد العرب والمسلمين فئران تجارب دموية». فكيف يصح أن يسدي رئيس جمهورية الشيشان جميلاً للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويساهم في إطفاء الحرائق والحروب، وهو الذي يسجل له التاريخ المعاصر مواقف مضادة لإرادة الشعب الشيشاني الذي تعرض للقتل وللدمار والتشريد على يد الرئيس فلاديمير بوتين وليّ نعمته الذي يقتل اليوم السوريين؟ وكيف يسدي جميلاً للمسلمين وهو يعلن صراحة عداوته للسلفية وينعتها بأقبح الأوصاف وأحطها، وهي منهج السلف الصالح؟
لقد اجتمعت في هذا المؤتمر من أسباب الطعن في مصداقيته ما لم يجتمع في مؤتمر آخر عقد تحت شعار إسلامي خادع. فهو بنتائجه يعضد توجهات القوى المعادية للإسلام التي تطمع في فرض هيمنتها على العرب والمسلمين تحت مسميات عدة، بل يصبّ في مصلحة مشروع إيران الطائفي المعادي لأهل السنة والجماعة.
ومن العجيب أن مؤسسة طابه التي يرأسها الشيخ الحبيب علي الجفري المقيم في أبوظبي، التي دعت إلى عقد هذا المؤتمر بشراكة مع جهات أخرى ومولته، نشرت في موقعها بيان المؤتمر بتعديلات وإضافات لتجميله بعد النقد الواسع الذي وجه إليه، وهي تعديلات لا تقدم ولا تؤخر. كما أن الأزهر أصدر بياناً أوضح فيه أنه لم يوافق على بيان المؤتمر، وهو كما رأينا بيان مشبوه نصاً وروحاً وهدفاً. ولعلهم أحسوا بفداحة ما وقعوا فيه، وكيف زين لهم قاديروف ومن معه ذلك وهم غافلون، وقد يكون بعضهم عارفين؟.
عبدالعزيز التويجري- الحياة السعودية-