لكن المؤتمر الذي عقد في العاصمة الشيشانية جروزني خلال الأسبوع الماضي أثار تفاعلا من نوع مختلف، وضرب على أشد الأوتار حساسية في الوعي التاريخي القديم والمعاصر.
ردود الفعل هذه ليست لأنه أقيم في الشيشان كما يتوهم البعض، وحكاية الدعم الروسي وموقفها من القضية السورية، فهذه إشكاليات جانبية في التحليل السياسي، وليست هي مصدر الحساسية، ولو أقيم في تركيا أو ألمانيا أو أي بلد آخر سيتم أيضا وضع تحليل سياسي وسيناريو آخر للمكان.
لا تملك الشيشان أي رمزية تاريخية تفيد المؤتمر، ولو عقد المؤتمر بهذه الصورة وبالضيوف أنفسهم، وتداول المواضيع نفسها التي طرحت لكن بعنوان تقليدي عام آخر مختلف.. حول الإرهاب والتطرف والخوارج، لما استطاع خلق ردة الفعل والقلق منه. فالحقيقة أن العنوان نفسه هو كل شيء في المؤتمر.. وما بعده مجرد تفاصيل. ومع عدم وجود تمثيل قوي للجهات المستبعدة، فالرسالة السياسية والدينية أصبحت هنا مباشرة وصارخة، وتتجاوز كل التفاصيل الجانبية ماذا قيل ومن حضر ومن لم يحضر!؟ ولا تنفع معه تصاريح امتصاص الغضب التي قيلت بعده من شخصيات اعتبارية وكأنها لا تعلم حقيقته.
إن طرح عنوان: من هم أهل السنة والجماعة؟! وتوظيفه في نقاش عن مصدر التطرف والإرهاب هو من العناوين: بالغة الخبث والذكاء الاستراتيجي، والتي تصنع نقطة تحول فيما قبل وما بعد، بإمكانيات عادية، وتجعلك في منطقة الدفاع، ومقابل ذلك تقام العشرات من المؤتمرات والجهود الإعلامية والنفقات الهائلة في الحديث عن التطرف والإرهاب، والنتيجة والمردود ينتهي بعد أسبوع! خطورة نوعية ردة الفعل هنا مربكة فالسكوت مشكلة، والتصعيد مشكلة أخرى، وتحتاج إلى خبرات ووعي تاريخي ولا تترك لفئات تدير المشهد الصراعي في مثل هذه القضايا الفكرية التي نشاهدها خلال العقد الأخير، وهي تضر أكثر مما تنفع في مواجهة التحديات التاريخية التي نواجهها.
عمليا كان من الأفضل وأد الفتنة قبل ظهورها، وإرباك المتجهين لهذا النوع من مؤتمرات الضرار، قبل انعقاده، ولو تحقق هذا لقطع الطريق بعكس ردة الفعل المتأخرة وبعد انتهائه. السؤال الأهم بالنسبة لي ليس الحديث عن مدى وجود توجهات تآمرية أو أن هناك من يخطط لضرب مصالح مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وإنما هو: أين هذه القدرة على المتابعة التي نشاهدها بملاحقة هذا الواعظ أو ذلك الداعية، وين راح وين سافر.. وبأي فندق يقيم، والطرف الآخر الدعوي مشغول بملاحقة مناسبات الترفيه الصيفي، ثم يأتي مؤتمر مثل هذه الخطورة فلا تجد تنبيها من هذه الأصوات مسبقا عن هذا المؤتمر!
يصعب من الناحية العلمية العبث بمحتوى هذه المصطلحات والمسميات التاريخية، وما تحمله من مضامين صنعت التصور الكلي عن أصول هذا المذهب أو ذاك، وتحقيقها وتمييزها عن الانحرافات المتجددة مع كل تطرف جديد.. يأتي من خلال قراءات علمية ودراسات منهجية يعرفها النخب والمهتمون بذلك، لكن استعمال هذه المصطلحات وهذا ممكن ، كأدوات تشويه وتنابز جماهيري.. واستحضارها بكثافة في الخطاب الإعلامي أو المنبري، فإن هذا سيخلق نوعا من التوتر والانشقاقات الكلية بصورة عامة بحيث تتحول كل بقعة جغرافية إلى جذورها التاريخية كتعصب مذهبي، ولا يصلح الأخطاء العقائدية والفكرية والفقهية على مستوى التفاصيل.
والقضية اليوم ليست في نوعية التنازلات التي يمكن أن تقدم على مستوى الخطاب في الدعوة والمنهج الذي ترى أنه الأقرب للصواب، وإنما اتضح خلال عقدين أن هناك تراكما لبعض الأخطاء منذ سنوات طويلة، وضياعا للبوصلة.. وغيابا لحس المسؤولية التاريخية عند كثير من الجهات، ولا يوجد إدراك لقيمة ما أنجز تاريخيا في بداية القرن الماضي ومنتصفه من رصيد في وعي العالم الإسلامي بكل تنوعاته، مع ظهور أجيال دينية ناشطة في المجال الدعوي ورسمية تفتقد للحس التاريخي المعاصر، وتتوقع أن المكانة المعنوية التي حدثت لوطننا خلال العقود الأخيرة أتت من فراغ، وليست من جهود مبكرة في الدبلوماسية والوعي الفكري.
التحول التاريخي لا يحدث بزمن قصير لكن عندما يحدث ويظهر لك ستكون استيقظت بالوقت الضائع. وللأسف يمكن ملاحظة كثير من التشوهات في الأداء وعدم جديتنا في المراجعات المنهجية للخطاب ونوعية المواقف في كل مرحلة وتطوير يناسب التحولات التاريخية، فالكثير من المعطيات التي صنعت الماضي تغيرت جذريا، وأهمها تقنية الاتصال الرخيصة التي كسرت حاجز الفارق بين القوى الغنية التي تملك إمكانيات كبيرة وبين القوى الضعيفة في مخاطبة الجمهور في كل مكان، وهذه بحد ذاتها ستعيد ترتيب خارطة الوعي لأكثر من مليار مسلم خلال ربع قرن قادم.
عبدالعزيز الخضر- مكة السعودية-