دعوة » مواقف

السلفيون والإقصاء

في 2016/09/07

كليات الشريعة وكليات الدعوة وأصول الدين في جامعاتنا لا تميز في استقطاب الكفاءات العلمية بين سلفي وأشعري وماتريدي وصوفي بالرغم من كون مؤتمر جروزني الذي عُقِد الخميس 22/ 11/ 1437 كان مثالاً صارخا للإقصاء المُتَعَمَّد في أسوأ أشكاله، سواء أكان في طريقة الإعداد له أم في إدارة جلساته وما قُدِّم فيه أم في خاتمته والنتائج المنبثقة عنه، إلا أننا ما زلنا حتى اليوم نقرأ ونستمع إلى من يَتَّهِمُ السلفية بالإقصاء، ويبرر الإقصاء الذي مارسه مؤتمر جروزني بأنه رَدَّة فعل على الإقصاء السلفي تعبيراً عن دخائل النفوس التي أعمتها الخصومة عن الرؤية العادلة، فأصرُّوا رغم وضوح التآمر على الدعوة السلفية على أن تبقى السلفية مُدَانةً، وبخلوا بكلمة الحق لأنها في صالح من يعتبرونهم خصوما لهم.

ولن أقف كثيراً عند التاريخ الذي يُثبِت بجلاء أن خصوم منهج السلف الصالح -رضي الله عنهم- من أصحاب السُبُل والذين فَرَّقُوا دينهم وكانوا شِيَعا، ما انفكوا عمالقة القمع والإقصاء وامتحان خصومهم من أتباع منهج السلف ومبادراتهم بالقتل والسجن والحرمان من الوظائف والتعليم حين يكونون أصحاب الدولة والعلوِ في الأرض، وقد حدث ذلك أولاً في عهد عُلُو المعتزلة زَمَنَ المأمون والمعتصم والواثق، حين تم امتحان جميع العلماء في قولهم بصفة الكلام لله، ثم في عهد علو الأشاعرة، والذي بدأ زمن السلطان السلجوقي ألب أرسلان ووزيره نظام الملك، الذي ضيق على حملة منهج السلف، وقَصَرَ التدريسَ في المدارس النظامية على المذهب الأشعري، وحدثت في عهده ببغداد فتنة ابن القشيري المشهورة بين الأشعرية والحنابلة، والتي أوقدها ابن القشيري بتكفيره الحنابلة وأمرِه طلابه بمهاجمة الشريف أبي جعفر العباسي في مسجده، مروراً بما حصل لابن تيمية على يد الصوفية والأشاعرة من التضييق والإفتاء بقتله، ثم موته محبوسا دون جُرم، وكان ما عاناه ابن تيمية -رحمه الله- وتلاميذه مُعَبِّراً عن مدى الإرهاب الفكري الذي تسلط به الأشاعرة والمتصوفة على أتباع مذهب السلف، والذي يُفَسِّر لنا صمتَ المحدثين الكبار من أمثال النووي والمزي وابن حجر العسقلاني عن الجهر بمعتقد السلف، رضي الله عنهم، فما وقع لابن تيمية كان مشهداً واضحا يبين لنا ما كان يمكن أن يلاقيه أي عالم يُظهر عقيدة السلف.

ومروراً أيضا بما حصل في القرن الثالث عشر الهجري من فتوى علماء الأزهر الأشاعرة لمحمد علي باشا بأنَّ غزوَه الجزيرة العربية جهاد في سبيل الله، وإقرارهم لما حصل من إبراهيم باشا في حربه على دولة السلفية من قتل وتحريق وانتهاك للحرمات، بل كان في رفقة الباشا في غزوه الجزيرة العربية بعض علماء الأزهر من الأشاعرة مؤيدين له غير مستنكرين ما رأوه من بشاعات تندى لها القلوب، مروراً بكل ذلك وانتهاء بما هو عليه الحال من التضييق على دعاة المنهج السلفي في كل أنحاء العالم الإسلامي اليوم، والخلط المُتعمد بينهم وبين التكفيريين القائمين بأعمال الإرهاب والتخريب الخارجِين عن فتاوى علماء السلفية الحقة.

نمر بكل ذلك لننظر إلى واقع السلفية حين أصبحت الدولة لها في بلادنا المملكة العربية السعودية هل عاملت المخالفين بالمصادرة والإقصاء والقتل والتخريب كما فعلت الفرق المخالفة مع أتباع مدرسة السلف طيلة القرون المنصرمة؟

فالسلفيون يشرفون اليوم على مجمعين من أكبر مجامع الفقه الإسلامي في العالم، في مكة وجدة، ويضم المجمعان نخباً من المفتين من غير السلفيين من أنحاء العالم الإسلامي، ويقع بينهم الخلاف الكبير داخل أروقة المجمع، لكنهم لا يتفارقون على أساس من هذا الخلاف أبدا، والمجمعان يعملان منذ سنوات طويلة ويواكبان مستجدات العالم الإسلامي بِجِد، وأثبت المجمعان عملياً: أن المسلمين يمكن أن يتوحدوا على أساس الخلاف في الفتوى، ولو اتصف السلفيون بالمفارقة على أساس الخلاف الفقهي أو مسائل العقيدة المتأولة عند المخالفين، لكان المجمعان منبرين للافتراق لا للاجتماع كما حصل في مؤتمر جروزني، بل لانقضى أمرهما منذ زمن بعيد. وأزيد بأن أحد هذين المجمعين قد أُسْنِدَت أمانتُه منذ سنين إلى أحد علماء العالم الإسلامي ممن لم يوصف بسلفيته، وهو الشيخ الحبيب بلخوجة -رحمه الله- من علماء تونس المالكيين، ولم يقع من السلفيين استئثار بهذا المنصب، مع أنه في بلادهم وتحت رعايتهم. وتولى الأمانة من بعده الدكتور أحمد خالد بابكر من السودان ثم معالي الدكتور عبدالسلام العبادي من الأردن، وليكن حاضرا في الذهن أن رئيس هذا المجمع المتسامح منذ تأسيسه أحد أعضاء هيئة كبار العلماء، وهو الشيخ بكر أبو زيد حتى توفي، رحمه الله، ثَمَّ خلفه الشيخ صالح بن حميد حتى اليوم، أمد الله في عمره.

وانظر إلى المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي وأعضائه ومن يُدعى إلى مؤتمراته سنوياً، لن تجده حكراً على السلفيين، بل فيه الأشاعرة والماتريدية والصوفية، وقُل مثله وأكثر في جميع المؤتمرات التي تقيمها رابطة العالم الإسلامي، فإن حضورا واحدا لأي من هذه المؤتمرات المستمرة طوال الأعوام الستين لعمر الرابطة، سترى عينك علماء المسلمين من جميع التوجهات الفقهية والعقدية، بل والحركية أيضا، وقد كانت أكثر فترات عمر الرابطة انفتاحا، تلك الاثنا عشر عاما التي تولى أمانة الرابطة فيها أحد كبار علماء السلفيين، وهو الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن التركي.

أما الجامعات السعودية، وكليات الشريعة وكليات الدعوة وأصول الدين فيها، فحدث ولا حرج عن عدم تمييزها في استقطاب الكفاءات العلمية بين سلفي وأشعري وماتريدي وصوفي، بل أقول واثقا: إنه لا يوجد جامعة في العالم الإسلامي أرحب صدرا بعلماء المذاهب المنتسبة إلى السنة من جامعاتنا في المملكة العربية السعودية، وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها يعمل عشرات أساتذة الفقه والعقيدة في جميع جامعات المملكة وكلياتها من غير أتباع منهج السلف، عليهم رضوان الله، وأبرز مثال لذلك الدكتور أحمد الطيب إمام الأزهر الحالي، فقد درَّس سنوات عديدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو أشعري صوفي، وتضمنت كلمته في مؤتمر جروزني لمزاً غير مقبول بالحنابلة.

ومما يثير الأسف الشديد أن قليلا من الأساتذة من الأشعرية والصوفية بمجرد أن تنتهي عقودهم من جامعاتنا يعودون إلى بلادهم ليشاركوا في مناشط معادية لبلادنا وللدعوة السلفية، وأذكر اثنين ممن عملوا في كلية الدعوة بجامعة أم القرى شاركا قبل خمس سنوات أو أكثر بقليل في مؤتمر بمصر عنوانه "السلفية والصهيونية" أقامته إحدى الطرق الصوفية التي حضر شيخها مؤتمر الشيشان، وجاء في البيان الختامي للمؤتمر: إن السلفية أخطر من الصهيونية، مع أنهما لقيا من التقدير والتبجيل في الجامعة أضعاف ما يجدانه في بلدهما مصر، وقد توفي أحدهما، غفر الله لنا وله، ولا أعلم هل توفي الآخر أم لا، لكن الذي أعلمه أنهما لم يعتذرا عن هذه المشاركة، ولم يتنكرا للبيان، كما لا أذكر أن الأزهر اتخذ موقفا من هذا المؤتمر وممن شارك فيه، فهل كان السكوت علامة الرضا؟!

أي رحابة صدر يراد من السلفيين أكثر من ذلك، هل يراد منا أن نكون مائعين مميعين لعقيدتنا حتى نثبت أننا أهل تسامح، أم يراد منا أن نسكت عن الرد على مخالفينا ونترك ما ندين الله به من الاعتقاد عرضة للنيل منه دون أن ننبس ببنت شفة؟!

أم يراد لنا أن نتقبل عدوان مخالفينا علينا، ونقبل ما يعتذر به بعضهم من أنها أخطاء فردية لا ينبغي تعميمها، ثم إذا أخطأ أبناؤنا وبعض دعاتنا أو عبروا عن رأيهم بطريقة صلفة جافة نقبل أن يُعَمَّم الخطأ علينا؟. لا، لن نكون كذلك. 

محمد السعيدي – الوطن السعودية-