لم يكن البيان الختامي لمؤتمر الشيشان متوقعاً ببنوده الختامية، وبالأخص تلك التي تناولت إخراج السلفية والإخوان من أهل السنّة والجماعة.
فالبيان الختامي كان صادماً، ويشبه في حيثياته البيانات الثورية التي تبدأ بـ»البيان رقم واحد». فالصادم أن هذا البيان تحدث، لأوّل مرة، عن المحرّم السعودي الوهابي، الذي طالما كان بعيداً ومنزَّهاً عن أي نوع من أنواع التساؤل، والفحص، والنقاش، والنقد حتى على مستوى أخطائه بحق التاريخ، والتدين، والدعوة، والفقه، وربما حتى على مستوى تورطه بجرائم السياسة والطغيان والديكتاتورية.
كان للدولة السعودية، بالتعاون مع المؤسسة الدينية الوهابية على مدى عقود من الزمن، الدور الأبرز في خلق الطغيان السلفي بالذات، ودعم سيطرته على الجو العام للمذهب السنّي بجميع ألوانه وأشكاله. ومن ثم إزاحة كل من لا يتفق مع ظاهرة الوهابية من خلال صناعة طوق سياسي، وطائفي، ومادي، وعسكري، وثقافي محكم بتزمته ورفضه للآخر. ليُستَبدَل بعد ذلك بالدين الإسلامي وأطيافه المتعددة، والمتنوعة، وثقافته المتسامحة، دينٌ جديد لا يبتعد بتفاصيله وتكويناته عمّا أنتجه على أرض الواقع من نماذج متشابهة كـ»طالبان»، و»القاعدة»، و»داعش»، و»النصرة» وغيرها من جيوش حزّ الرؤوس وبقر البطون وقتل المدنين وتبني الجهل كجزء من حالتهم الوجودية.
زيادة على ذلك، فقد سخّرت الحكومة السعودية كل إمكاناتها المادية والمعنوية لطمس معالم التاريخ الإسلامي تحت ذريعة التوسعات، والتطوير لمباني الحرمين الشريفين في مكة والمدنية.
وقد قوبل ذلك بترحيب وتعاون المؤسسة الدينية الوهابية تحت ذريعة مكافحة الشركيات، والبدع، وضلالات المذاهب الأخرى وفقاً للنظرة الوهابية. فجرت أكبر عملية مسح للذاكرة الإسلامية، وإرثها السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، الذي يحكي قصة الإسلام منذ بداية نشأته، وعلاقته بما سبقه من التاريخ الإنساني، وما طرأ عليه من تحولات وتقلبات سياسية واقتصادية وثقافية وأدبية واجتماعية وانقسامات طائفية بعد ذلك، ليصبح كل هذا الإرث الإنساني الكبير، وما يمتّ له بصلة، مبنياً على منهجية وفكر مدرسة محمد بن عبد الوهاب العسكرية المشبوهة، في ظروف نشأتها وسلوكها كشرط للبقاء والاستمرار.
الطفرة المادية أسهمت أيضاً بطمس معالم كل المباني والآثار المكية والمدنية، خصوصاً آثار الرسول الأعظم (ص) وآل بيته الكرام، بكل ما لذلك من رمزية، على أنها من الشركيات، الواجبة إزالتها، بينما ترتفع في المقابل مباني الأمراء التجّار، تحت مسميات عديدة، منها التجاري، ومنها الديني كوقف الملك عبد الله لوالديه وغيرها!
هذه السيطرة بالحديد والنار على أهم مدينتين إسلاميتين أسهمت بإلغاء كل ما يمتّ إلى فكرة «اختلاف أمتي رحمة»، ليتحول الخطاب الإسلامي بنموذجه السعودي الوهابي إلى ساحة من الصراع الدموي المفتوح بلا سقف في سوريا، والعراق، ولبنان، وليبيا، ومصر، واليمن، وإيران، وأفغانستان، وغيرها من البلدان وفقاً لمبدأ الفرقة الوحيدة الناجية.
فكان مما كان أن يتحول منبر محمد بن عبد الله (ص) إلى منبر دعاية وإعلان لمدرسة محمد بن عبد الوهاب السلفية، وبوقاً للدفاع عن ديكتاتورية الحكم السعودي وتبرير أخطائه، وطائفيته وإجبار المسلمين على الدعوة بالويل والثبور على كل من يختلف مع النهج الوهابي من المسلمين من الطوائف الأخرى.
هناك حالة واضحة من التململ السنّي بسبب الحالة الوهابية ودمويتها وتزمتها، الذي أصبح مثار إحراج لكل المنتمين إلى الدين الإسلامي بلا استثناء. لذا، فقد جاء المؤتمر بمثابة إعلان صريح عن أن قيادة الوهابية للعالم الإسلامي عنوة في طريق بغاية الوعورة، وغير مأمونة الجهة والنهايات. وليس بالأمر الذي من الممكن السكوت عليه بعد أن جعلت الإسلام وكل ما يمت إليه بصلة هدفاً عسكرياً. وبعد أن ناله وأهله ما ناله جراء أكبر عملية تشويه وتفتيت داخلي قادها الحلف السعودي الوهابي بدقة.
مؤتمر الشيشان حرك المياه الراكدة، وتحدث بالمحرّم السعودي الذي يشبه حرمة الحديث عن الهولوكوست الألمانية إبان حكم هتلر. فقامت على إثر ذلك الشراكة السعودية الوهابية ولم تقعد، الأمر الذي دفعها إلى كيل الشتائم لكل المشاركين بذلك المؤتمر، في تأكيد واضح لأزمة المؤسسة السعودية الوهابية وأجندتها، ودورها المشبوه في تفتيت الأمة الإسلامية.
مؤتمر الشيشان لم يكن متوقعاً، لكنه وإن جاء متأخراً، كان بمثابة إعلان ثوري بغاية الجرأة لتحدي المؤسسة الدينية السعودية وطغيانها، وكبح جماحها بإسقاط وصايتها الوحيدة على الدين الإسلامي، ونفيها من قبل إجماع المسلمين السنّة، الأمر الذي لفت الانتباه بنحو غير مسبوق إلى زمن العزلة السعودية بشقيها السياسي والديني، تمهيداً لمرحلة سترسم ملامحها بدقة تداعيات منهج التزمت والتزوير واحتقار الآخر ومصادرته.
مالك القرشي- الاخبار اللبنانية-