كنت في غضون الأيام القليلة الماضية أعكف على دراسة «العنف اللفظي في العالم الافتراضي»، ووجدت في وسط الركام العفن من إلحاد وقذف وسب وشتم وكلمات نابية وألفاظ سيئة تغريدة قديمة للدكتور طارق السويدان، عنونها «سؤال للتفكير»، وضمنها ما نصه: «إذا كنا نستطيع أن نناجي الله تعالى مباشرة في أي وقت وأي مكان فما قيمة الحج والعمرة إذًا؟».
إننا في مثل هذه الأسئلة الملغمة بالشُّبه المثيرة للجدل يمكن أن نهدم الدين كله، بدءًا من عموده الصلاة، ومرورًا بذروة سنامه الجهاد، وانتهاء بأبسط الحقوق التي كلف الله بها العباد، وإن غابت عنهم الحكمة، وعجزت عقولهم عن إدراك الكنه والسبب، فضلاً عن أي عارف بأبجديات هذا الدين يعلم أن الله - عز وجل - فاضل بين الأزمان والأماكن والأحوال والأشخاص، وفي مكة وخلال ساعات عشر ذي الحجة يجتمع للعبد فضلَيْ الزمان والمكان، وإذا كان متلبسًا الإنسان بلباس الإحرام فقد جمع فضلاً لفضلَيْن.
لقد جعل الرب سبحانه وتعالى - وهو خالق الإنسان بيديه، والنافخ فيه من روحه، والأعلم بما هو خير له وأفضل ويقربه له عز وجل أكثر وأكثر - أقول لقد جعل الله - كما يقول العلماء - الأصل في العبادات التحريم إلا ما دل الدليل على حله، والأصل في المعاملات الحل إلا ما دل الدليل على تحريمه. وهذا يعني أن العبادات توقيفية، يفعلها العبد كما أُمر، وإن خفيت عنه الحكمة؛ لذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في كل موقف يقفه بالمشاعر المقدسة «خذوا عني مناسككم»، وفي الصلاة «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وهذه أحد مضامين ودلالة الإسلام الذي يعني لغة: الانقياد والاستسلام والخضوع، وشرعًا: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك ومعاداة أهله. قال تعالى:{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} سورة الأنعام. ومع ذلك فقد أشار الرب في كتابه الكريم إلى ما فيه غنية لطالب الحق المبين بعيدًا عن تدليس المدلسين وكيد المبطلين؛ إذ قال عز من قائل عليمًا بعد أن أمر عبده ونبيه إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج، ووعده - ووعده حق إلى يوم القيامة - بأن يسمع من في الأرحام؛ فتتوافد البشرية على بيت الله العتيق من كل فج عميق، وذلك من أجل {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}. ولفظة (منافع) جاءت نكرة في سياق العموم؛ فهي تشمل المنافع الأخروية والدنيوية، الصحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية، الفردية والمجتمعية، الشعبية والرسمية. ولو أردنا أن نسرد المنافع التي تعود على العبد حين يناجي ربه على صعيد عرفة فقط وهو يستشعر قُرب الله منه ودونه من الخلائق، ومباهاته بهم ملائكته، لكان ذلك كافيًا لإسكات مثل هذا الصوت النشاز الذي غاب عنه أن مَن خلقه هو مَن أمره بأن يقتفي أثر إبراهيم عليه السلام، ويمشي على خطى محمد - صلى الله عليه وسلم - التي مشاها في جنبات مكة على صعيد المشاعر المقدسة، وهو أعلم بما هو خير له وأصلح وأقرب عند الرب سبحانه.
أحيانًا تُصدم بمثل هذه الشطحات الخطرة التي تضل؛ فيكون على صاحبها وزرها ووزر مَن قال بها أو عمل إلى يوم القيامة. وعلى فكرة، هذا ليس جديدًا في تاريخنا المحفوظ الشفهي، المروي منه أو المدون المكتوب، وعلى فتات موائد الفلاسفة السابقين يأكل أمثال هؤلاء المغردين. وفي مثل هذه الحال لا يسع المرء إلا أن يدعو بهذا الدعاء الرباني الخالد {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}؛ فقلوب العباد - كما في الحديث - «بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء»، حتى يصل الحال ببني آدم أن يكون تبدل عقائدهم سريعًا، وتغيُّر قناعاتهم في اليوم الواحد والعياذ بالله «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا» رواه مسلم.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. وحج مبرور. وإلى لقاء. والسلام.
أ.د.عثمان بن صالح العامر- الجزيرة السعودية-