ما الفائدة من (التشدق) بالفارق بين النص وتفسيره إذا كان الأمر منتهيا، وكان "كل ما ذهب إليه الأشاعرة" هو الحق الذي لا ريب فيه؟
قلت سابقا إننا لا نزال أسرى ثقافة المماليك وقضايا المماليك، وأتى مؤتمر الشيشان في جروزني ليصدق ما أقول؛ ويكون برهانا ساطعا واضحا على أننا لم نتجاوز بعد صراعات عهد المماليك وقضايا عهد المماليك.
في الوقت الذي تحاصر المملكة العربية السعودية، من شمالها وجنوبها وشرقها، وفي الوقت الذي تمتد يد إيران إلى 4 عواصم عربية، يأتي مؤتمر الشيشان ليكون ضربة في الظهر، وطعنة في الخاصرة؛ ليتساءل: من هم أهل السنة؟ بدلا من أن يتساءل: من هو العدو الذي يجب أن يوقف عند حده؟
كانت الكلمة الختامية التي ألقاها الشيخ علي جمعة دالة دلالة واضحة على المراد (إبعادُه) من أن يكون سنيا، لأن المؤتمر لم يقم للتمييز بين أهل السنة والاثني عشرية مثلا، بل جاء للتمييز بين أهل السنة، فتراه يذكر لفظة (النابتة)، وللفظة "النابتة" و"الحشوية" وغيرهما من الألفاظ دلالاتها في التراث، وقد كان يطلقها علماء الكلام على أهل الحديث.
ثم أخذ يتساءل: ما الفرق بيننا وبين هؤلاء النابتة؟ فذكر -من جملة ما ذكر- فرقَين رئيسين:
قال بالحرف الواحد: "لقيناهم يقفون عند النصوص وقد حدثنا علماؤنا أن هناك فارقا بين النص وبين تفسير النص وبين تطبيق النص".
ذاك أن من يأخذ (بظواهر النصوص) عند علي جمعة وينفي التأويل –التأويل على طريقة علي جمعة والأشاعرة– يُعد (جامدا على النص)، وهذه الصفة نُبِز بها السلفيون (بل الحنابلة من قبلهم) ولا يزالون يُنبَزون، لكن هذا لم يكن فارقا جوهريا بين أهل السنة ومن عداهم حتى تنفى هذه الصفة عمن يرى هذا الرأي في فهم النص. ولم ينزل وحي من الله ليعلم الناس كيف يفهمون، وإنما الفهم اجتهاد، ولم ينزل نص من الله ولا ورد عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان بنص صريح صحيح أن الفرق بين السني وغير السني هو التفرقة بين النص وفهمه! فحتى الاثنا عشرية، وحتى الإباضية، وحتى الزيدية، وحتى القرامطة والباطنية يقولون بالفارق بين النص وتفسير النص، فهل هذا على التحقيق فارق بين أهل السنة وغيرهم؟ وهل هذا -بالله عليك- كلام عالم مدقق في مسألة خطيرة كهذه؟
أما الفرق الثاني فيقول علي جمعة: "فهو أنهم يجهلون اللغة العربية! والمقاصد المرعية، والمصالح الشرعية، والمآلات المعتبرة".
قلت: بورك السجع والسجاع! فهل علماء الاثني عشرية، والإباضية والزيدية وغيرهم من الأئمة يجهلون اللغة العربية والمصالح الشرعية والمقاصد المرعية؟ أهذا -بالله عليك مرة أخرى- يُعَد من الفروق الجوهرية بين أهل السنة وغيرهم؟ ألا يصح أن يكون المرء أشعري العقيدة حقا وهو تركي؟ أو فارسي؟ أو باكستاني أو هندي؟ ألا يصح أن يكون المرء أشعريا على التحقيق يقول بجميع مقالاتهم لكن بلغته هو؟! أهذا بالله عليك كلام عالم مدقق في مسألة بهذه الخطورة؟
ثم يقول: إن مذهب الأشعري من بعده صار فيه قولان: قول منصوص، وقول مخرج!! أهذا –في أصول الدين– منهج الصحابة والتابعين؟ أقولان قد يكونان متضادين، كلاهما من أصول الدين حقا؟
ثم يعرج الشيخ علي جمعة على حرية الفكر في المذهب الأشعري، فأين حرية التعبير يا سيدنا الشيخ حين كفرت قلعة الأشعرية في المعمورة نصر حامد أبو زيد، وأين هي حرية التعبير يا مولانا الإمام حين كُفر عبدالصبور شاهين؟ وأين حرية الرأي والتعبير فيما جرى لطه حسين؟ وأين حرية الرأي والتعبير فيما جرى لعلي عبدالرازق؟ ولو أردنا أن نعود إلى سير الأشاعرة لوجدنا الكثير من قصص القتل والتصفية الجسدية، والحث على هذا. أهذا فارق جوهري بين (أهل السنة) و(أهل البدعة)؟
وبعد أن يقرر الشيخ علي جمعة أن (علماءه) أخبروه بالفارق بين النص وتفسيره، يقرر -وبلا أن تطرف له عين- قائلا: "كل ما ذهب إليه الأشعرية إنما هو ترجمة صحيحة للكتاب والسنة"! وبهذا نسأل فضيلة العلامة: فأين هاهنا الفارق بين النص وتفسير النص ما دام "كل ما ذهب إليه الأشعرية" هو الترجمة الصحيحة للكتاب والسنة؟! ما الفائدة من (التشدق) بالفارق بين النص وتفسيره إذا كان الأمر منتهيا، وكان "كل ما ذهب إليه الأشعرية" هو الحق الذي لا ريب فيه؟
ثم يقول: "إن مذهب الأشعري هو المذهب الذي به العمارة والحضارة"! ولن أعلق على هذه العبارة التي ينقضها الواقع، وكأن على جنس بني آدم أن يكونوا أشاعرة لتقوم العمارة والحضارة!
ويقول مولانا الإمام: "إن المذهب الأشعري يعيش الواقع"! وأقول: إن مؤتمر الشيشان هذا الذي يتساءل فيه المؤتمِرون: من أهل السنة؟ يبين حقا أنهم يعيشون الواقع! ذاك أنهم نقلوا الخلاف من بطون الكتب، وحلقات العلم، إلى مستوى سياسي غير مسبوق في التاريخ!
ثم يتكلم الشيخ عن "جهالة النابتة" الذين فقدوا الإسناد! ثم يستدل بفضيلة العلامة الألباني -بلا أي دليل- أنه مزق الإجازة التي أجازه به العلامة محمد راغب الطباخ، بحجة أن هذا الإسناد ما هو إلا تمثيلية! هذا والشيخ الألباني في كتبه يفخر بإجازة شيخه، ويسميه (شيخنا في الإجازة العلامة محمد راغب الطباخ)، وينقل عنه، ويدل عليه.
واستدلال الشيخ علي جمعة بالألباني يدل دلالة واضحة على أولئك (النابتة) الذين يريد (إخراجهم) من دائرة أهل السنة. وما الألباني إلا نموذج فقط.
ثم بعد هذا كله يقال: لم نخرج السلفيين من أهل السنة! أقول: فلماذا أقمتم المؤتمر إذن؟
من يقرأ هذا الكلام الذي سقتُه وناقشته أعلاه، يدرك أن قائله لم يهمه حين أدلى به التحقيق والتدقيق، بل هو كلام يدخل في خانة السياسة، ولا يدخل في خانة العلم.
حين قام الجهاد في أفغانستان، وأهل أفغانستان أحناف ماتوريدية وليسوا سلفيين، هب من يسميهم علي جمعة (النابتة) لمشاركة إخوانهم لطرد الروس، ولم يقولوا للأفغان: أنتم لستم أهل سنة!
الوطن السعودية-