يرتبط الاستعلاء عمليا بامتلاك القوة والشعور بالتفوق، العسكري منه والاقتصادي، بينما يرتبط فكريا ونظريا بالشعور بامتلاك الحقيقة. يفضي البحث التاريخي الى ان فكرة الاستعلاء النظري قد رافقت الوهابية في بداياتها، مع الغلو في ادعاء امتلاك الحقيقة والمزاعم المرافقة لها في كونها تمثل «العقيدة الصحيحة» و«الفقه القويم» بناء على العودة الى «السلف الصالح» امام ما تسميها الوهابية بـ«خرافات» الصوفية و«ضلالات» الاشعرية و«بدع الرافضية» والاتجاهات «العقلية» للفقه الشافعي والحنفي. اما الاستعلاء العملي فانه تجلى بوضوح بعد توقيع اتفاقية دارين ( او اتفاقية الطائف) والتي وقعها أمير الرياض آنذاك (الملك المؤسس للدولة السعودية الحالية) عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود والسير «بيرسي كوكس»، المعتمد السياسي البريطاني ممثلا الحكومة البريطانية في العام 1915، والتي ضمنت للمملكة الوهابية الحماية البريطانية. وان كانت ارهاصات هذا الاستعلاء قد بدأت مع «الغزوات والفتوحات» التي حققها محمد بن سعود بعد تحالفه مع محمد بن عبد الوهاب في طريقهما لانشاء الدولة السعودية الاولى عام 1744م. الا ان هذا الاستعلاء العملي بلغ ذروته مع الاكتشافات النفطية وانتقال السعودية من حماية المملكة البريطانية الآخذة بالأفول الى الحماية الاميركية.
أحسّت الوهابية منذ ذلك التاريخ بفائض قوة بعد الشعور باستعلاء مزدوج : فكري بوصفها لنفسها انها الدين الصحيح، وعملي بوصفها تمتلك اكبر خزان نفطي في العالم مع حماية «الدولة الاميركية العظمى». ومما زاد من «الاستعلاء» الفكري الوهابي انهيار الامبراطورية العثمانية واعلان اتاتورك حل الخلافة العثمانية، وهي خطوة اعتبرتها الوهابية «فرصة سانحة» تفتح لها الطريق للقيام «بغزوات فكرية» خارج شبه الجزيرة العربية، مستفيدة من موقعها الجغرافي كونها حاضنا لاهم مركزين اسلاميين، مكة والمدينة.
يعتبر «الاستعلاء» من المنطلقات التكفيرية السبعة التي اعتمد عليها الاتجاه التكفيري (الحاكمية، الجاهلية، الولاء والبراء، الفرقة الناجية، الاستعلاء، حتمية الصدام، والخلافة والتمكين) وينظّر لها اصحابها، لا سيما مع اضافات سيد قطب، انطلاقا من قوله تعالى : ﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾ [آل عمران:139] حيث اعتبر سيد قطب ان الآية تخاطب الفئة المؤمنة، باعتبار ان «عقيدتكم أعلى... ومنهجكم أعلى... ودوركم أعلى...ومكانكم في الأرض أعلى...فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون» [في ظلال القرآن،ج1،ص431]. والواقع ان «عقيدة الاستعلاء» لا يمكن دراستها بمعزل عن فكرة «الفرقة الناجية» الواردة في بعض النصوص الدينية والتي تعبّر عن مضمونها «أدبيات» سيد قطب بأنها «العصبة المؤمنة». فعندما تنقسم «الامة الاسلامية» الى ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها في الجنة والباقي في النار (بحسب نص الرواية التي صححها الالباني في سلسلته)، فان الوهابية، وتبعا لها التيارات القاعدية، التي تعتبر نفسها صاحبة العقيدة الصحيحة، ستشعر بالاستعلاء على باقي المذاهب والفرق، لا باعتبارها فرقا اقل شأنا، بل باعتبارها فرقا قد «ضلت» الطريق وانحرفت عن «الصراط المستقيم».
لقد رافق هذا الشعور بالاستعلاء الوهابية منذ تأسيسها، فلم تعمد الى مد جسور الحوار مع «الآخر»، فضلا عن ان مواقفها لم توحِ بالاعتراف به بوصفه «شريكا» بالتوحيد، وانما بوصفه «مشركا» به. انتجت الوهابية بفكرها «الاقصائي» كل تلك الحركات التكفيرية، وعندما تحولت هذه الحركات الى «ظاهرة» ارهابية سعت للتبري منها متهمة الآخرين «باستيلادها» رغم وضوح انها هي نفسها «الأم الولّادة» لكل هذه الحركات التي تقرأ بكتب ابن عبد الوهاب وابن القيم وابن تيمية، لا بكتب «ولاية الفقيه» فضلا عن كتب «علمانية» تنظر للقومية والبعثية وغيرها.
اقصت الوهابية باستعلائها هذا كل المسلمين عن الاسلام، لكنها لم تتحمل اقصاءً عن مؤتمر، وكفّرت كل «آخر»، لكن صدرها ضاق من قول بعضهم لها : انتم لا تمثلون وحدكم كل «أهل السنة والجماعة». تدعي الوهابية ومنتجاتها التكفيرية الاخرى الاستضعاف فيما يتصرفون تصرف المستكبر الذي لا يرى غيره مسلما موحدا.
فهل آن الآوان أن يقال للوهابية «لا» لهذا الاستعلاء والتصرف على انكم «الفرقة الناجية» او «العصبة المؤمنة»، و«لا» للسطو على مفهوم «السلفية»؟. وهنا تحديدا تأتي المهمة الاكبر في محاولة «تحرير» مصطلح السلفية من قيود «الاسر» الوهابي له. ربما يكون مؤتمر «غروزني» خطوة اولى على هذا الطريق لكنها خطوة قد يتراجع وهجها ما لم تستكمل بخطوات أخرى أكثر عملية من مجرد مؤتمر علمي.
محمد محمود مرتضى- شاهد نيوز-