دعوة » مواقف

المواجهة الأيديولوجية مع السلفية التكفيرية

في 2016/09/19

الحالة السلفية ليست ظاهرة جديدة في العالم العربي، لكن تمددها واتخاذها منحى إرهابياً على النحو الذي شهدناه في العقد الأخير، أعطيا الظاهرة التكفيرية بعداً آخر، حيث باتت تهدد الأمن العربي والإقليمي والدولي في الصميم. وهذا يتطلب دراستها دراسة جدية تذهب إلى جذورها المجتمعية والاقتصادية والثقافية في العالمَين العربي والإسلامي، وتتقصّى توجهاتها الراهنة والمستقبلية وطبيعة ممارساتها. فكيف نشأت وكيف استشرت، وما هي أهدافها الفعلية، وما هي مرتكزاتها العقائدية والايديولوجية؟
أسئلة مربكة تصدى لها مجموعة من الباحثين في «بين السلفية وإرهاب التكفير، أفكاري في التفسير»، «مركز دراسات الوحدة العربية» 2016، حيث رأى فواز جرجس أن السلفية الجهادية حركة مجتمعية مع شبكات لها، عابرة للحدود وذات قاعدة اجتماعية منتشرة، وبخاصة بين الشباب. وقد بات تنظيم «داعش» بعد المكاسب الكبيرة التي حققها على الأرض، يتولى القيادة العملانية للحركة الجهادية العالمية، إذ مثّل خطوة جديدة في هذه الحركة، تبدو معها «القاعدة» مجرد تنظيم صغير.
«داعش» و«الربيع العربي»
واذا كان عنف «داعش» الزائد يمثل التركة المرة الموروثة من الحكم «البعثي» للعراق، فإنه ما كان ليستطيع تعزيز مكاسبه لولا انتفاضات «الربيع العربي»، وانهيار مؤسسات الدولة في سوريا، وتلاشي أحلام ملايين العرب في التنمية والديموقراطية، واندلاع النيران المذهبية وصراع الهويات الذي شق المجتمعات العربية. وما من أمل في مواجهة السلفية المجاهدة من دون توفير الأمل للملايين في الحرية والعدالة والحياة بكرامة.
في السياق ذاته، ذهب محمد الهزاط إلى أن «داعش» يشكل تطوراً مفصلياً في مسار الظاهرة السلفية، إذ رفع سقف أهدافها لتشمل أهدافاً غير مسبوقة، على رأسها هدف تدمير نموذج الدولة الوطنية وتفكيك سيادتها، وبالتالي تعريض وجودها للخطر. وقد نجحت الجماعات الارهابية في توفير بيئة حاضنة لها من خلال تحالفات متينة مع مجموعات لاقبلية، الأمر الذي مكنها من التوسع وإعلان دولتها.
آثر تنظيم «داعش» خلافاً لأجيال الارهاب السابقة، مقاتلة العدو البعيد والقريب معاً، وتوظيف الدين في صراعه مع الطوائف والعرقيات والأقليات الدينية، مع ما يفرضه هذا النمط الجديد من تحديات لا يمكن لأي دولة مواجهتها بمفردها مهما أوتيت من قوة.
اذ عرض محمود أحمد عبد الله لدوافع الارهاب في الحالة المصرية، ذهب إلى أن التنمية المشوهة وغياب أجهزة الدولة داخل المجتمعات الفقيرة يضطر الشباب إلى الانضمام إلى الجماعات الجهادية. فأغلب أعضاء الجماعات المتطرفة جاؤوا من المحافظات الأكثر فقراً. كما أن غياب العقلانية ورسوخ أقدام الخرافة، وتراجع الخطاب الإصلاحي الديني، وامتداد نفوذ السلفية الوهابية إلى داخل الأزهر، فضلاً عن تراجع دور المؤسسات الثقافية، وغياب المشروع القومي، وتخلي الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية لتترك الساحة للجمعيات الدينية وخطابها السلفي، أدت في الحصيلة لنشوء التطرف وصعود الظاهرة السلفية.

قراءة إبن تيمية
في مقاربة فعلية للأصول الايديولوجية للسلفية التكفيرية، رجع هاني نسيرة إلى التراث. إذ هو حاضِرٌ بقوة لدى جماعات التطرف الديني وفي القلب منها السلفية الجهادية وتنظيماتها التي احتكرت كثيراً من أبواب التراث الفقهي والكلامي، وادعته سنداً ومعيناً خاصاً لها، يتم توظيفه وتأويله من أجل غايتها الحاكمية والإمامية المعاصرة. وإذا كان الاهتمام محصوراً في التنظيمات دون التنظيرات، والقادة العمليين دون الفكريين، فإن الأفكار وبنيتها هما الأهم في قراءة وتحليل التطرف وذهنياته. فعبرهما يتم التبرير وعبرهما يتم الانتشار والتجنيد، حيث تستدعي تيارات السلفية الجهادية إبن تيمية وتنسب اليه كثيراً من مواقفها، وهو الأكثر حضوراً وتكراراً في خطابها وتبريراً لممارساتها. والأخطر في حالتنا الراهنة، تأويل إبن تيمية من قبل منظري السلفية الجهادية كـ «القاعدة» و «داعش»، خارج سياقاته، وتوظيفه لخدمة الحاكمية المحدثة بعيداً عن دلالات خطابه الأصيلة، بل بعيداً عن مجمل خطابه، وبصيغة انتقائية حيث تدمج فتاويه بتأويلات الحاكمية عند سيد قطب الذي لم يقرأ إبن تيمية ولم يعرف مؤلفاته.
من هنا لم تكن المسألة عند إبن تيمية سوى نصح حكام عصره، لا المواجهة معهم، أو الانقلاب التوحيدي عليهم شأن منظري الحاكمية والجهادية المعاصرين. فلم يؤلف إبن تيمية في مسألة الإمامة، وقد ركّز على الاعتقاد والعبادة، فالإيمان بالله ورسوله أهم عنده من مسألة الإمامة، وقد رفض الربط بين الإمام أو الدولة، وبين الدين والشرع والإيمان، ورأى أن الخروج ليس حلاً لجور الأئمة بل هو مثار الفتن.
إن فكرة أن الحاكمية أخص خصائص عقائد الألوهية، أو أن كل تشريع غير إلهي كفر، لم ترد عند إبن تيمية، لذلك ثمة مشكل كبير في إسقاط فتاويه على الواقع المعاصر بتحدياته المختلفة عن عصر إبن تيمية، أو عصور الخلافة الأولى. وفي رأي نسيرة أن تعبير «الحاكمية» لم يرد في تراث ومجمل مؤلفات إبن تيمية الذي يناقض تأويلات السلفيين وممارساتهم العنفية كالتمثيل بالأسير والجثث من حرق وتغريق كما نسب إليه «داعش»، ما يثبت إساءة السلفيين له، وخطأ تفسيرهم لخطابه.

عن المواجهة والحلول
في رأي عمر حمزاوي ان الحلول العسكرية والأمنية، وإن ضرورية، تبقى غير كافية لمواجهة الارهاب، واننا نحتاج بالإضافة إليها، إلى حلول مجتمعية والنظر في المطالب المحقة للتجمعات السكانية المهمشة والحوار معها. فلا خروج للعرب من المتواليات السلبية إلا بالتوافق على منظومة أمن اقليمي جديدة، تطوّر حلولاً تفاوضية للحروب الأهلية المستعرة، وتجعل من الديموقراطية وحقوق الانسان وسيادة القانون، وتداول السلطة والتنمية المستدامة نسقاً قيمياً ومجتمعياً ملزماً.
نرى ختاماً أن الكتاب يشكل مواجهة ايديولوجية جدّية مع السلفية التكفيرية، ويكشف في العمق الخلل في تفسيراتها وتأويلاتها، لكنه في ما يطرحه من حلول وبدائل يبقى في حدود التصورات الطوباوية الغالبة على خطابنا المعاصر، فيما الواقع العربي ينذر بمزيد من التدهور ومزيد من الانهيار.

مجموعة باحثين «بين السلفية وإرهاب التكفير، أفكار في التفسير» مركز دراسات الوحدة العربية، 128 صفحة.

كرم الحلو- السفير اللبنانية-