دعوة » مواقف

مفهوم أهل السنة بين التوسيع والتضييق

في 2016/09/21

لا يزال الضجيج مصطخبا حول المؤتمر غير السديد ولا الرشيد، مؤتمر الشيشان، مهما حاول أن يجمله المجملون، ومهما حاولوا صرف معاني بيانه الختامي بالتي واللتيا، بما هو أشبه بـ"الاعتذار"، عن طريق الاعتساف في تأويل (ظواهره)، وتخصيص (عمومياته)، فدخلوا في خبط من الخبط، وفي اضطراب يحرجهم عند المحاققة والتتبع والإلزام، فيلجؤون إلى التخلص بتهويمات الكلام، بعد أن وقعت الواقعة، وحقت الحاقة، وانبلج الصبح لذي عينين، وانكشف الغطاء، تصريحات الحاضريه في تفسير بيانه الختامي متناقضة متهافتة، وإن الحق لا يتناقض كما يقول ابن تيمية رحمه الله، بل كما يقول جماهير العقلاء.
قد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا.. فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟ ولست أدري أمن الرشد أن أستمر في ذكر تهافت بيان هذا المؤتمر الختامي، وتهافت مبرريه من حاضريه وتناقضهم أم لا؟ غير أن ما أدريه أنه لو كانت مشكلتكم مشكلة (الإرهاب) باسم السنة؛ فهذا لا يعني أن يقام مؤتمر لا يذكر السلفيين أنهم أهل سنة، ويهمشهم عمدا، وهم الحاضرون باسمهم المميز لهم في العالم دولة وشعبا ودعوة وتصريحا. فالجميع متفق على إجرام الإرهابيين، وعلى أنهم خارجون عن الشريعة، وعلى أنهم لا يمثلون أهل السنة. والمملكة العربية السعودية أكثر دول العالم تحذيرا من الإرهاب، ومقاومة له نظريا وعمليا.
وما أدريه أيضا أن عوام المسلمين لا يدرون عن هذه الخلافات المذهبية شيئا، فوالدي ووالدتي، حفظهما الله، ومن قبلهما جدي وجدتي، رحمهما الله، لا يعلمون إلا أنهم "أهل سنة"، ولا يدرون ما أشاعرة وما ماتريدية وما سلفية. ولا يدرون عن خلافات "الشيوخ" وتشنيعاتهم بعضهم على بعض شيئا. يرجون رحمة الله، ويخشون عذابه، ويسألونه حسن الخاتمة. فليس من العدل ولا من السداد ولا من الرشاد إقحام عوام أهل السنة بتصعيد الخلاف العلمي إلى مؤتمر لا تبعد من عين الناظر أهدافه السياسية، المقصودة أو غير المقصودة. ولقد أحسنت هيئة كبار العلماء في السعودية التي التقطت الرسالة جيدا فصرحت بأن الوقت ليس وقت تلاوم. وهذا من الفقه والعمق بحيث يستحق الإشادة والتقدير والثناء. فجزى الله علماءنا خير الجزاء على هذا الرد الحكيم بحق.
قلت من قبل: إن هناك مشكلة تستدعي الإصلاح العاجل، عند السلفية وعند الأشاعرة وعند غيرهم من أهل الخطاب الديني التقليدي على الخصوص. وهذا الإصلاح لا يكون بالمزايدة على مفهوم (أهل السنة).
وإني أنطلق من رد بيان هيئة كبار العلماء الحكيم، فأدعو إلى نبذ هذه الخلافات (التاريخية) القديمة، الخاضعة لشروط مختلفة عن شروط زماننا، ومحاولة توسيع دائرة أهل السنة، وأدعي أن هناك أصولا لهذا التوسيع عند أكابر العلماء الأقدمين الذين كانوا –بحق– علامات فارقة في سيرورة الفكر الإسلامي.
فهذا حجة الإسلام أبوحامد الغزالي، يرحمه الله، حين كانت الباطنية خطرا يهدد دولة أهل السنة السلاجقة، يكتب كتابين مهمين جدا، هما "فضائح الباطنية"، و"تهافت الفلاسفة"، من حيث تتشابه مقولات الباطنية وعقائدهم في العقل الفعال، وجوهرية النفس وغيرها مع مقولات الفلاسفة، فيقول في مقدمة كتابه تهافت الفلاسفة: "أنا لا أدخل عليهم في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا دخول مدع مثبت، فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطورا مذهب الواقفية، ولا أتنهض ذابا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد". انتهى. فتأمل كيف ينسى الغزالي الخلافات مع (طوائف أهل القبلة)، ويدعو إلى (التحالف والتظاهر) ضد هؤلاء الخصوم المناقضين للمسلمين في أصول الدين، وإن كان المسلمون يختلفون في تفاصيلها. فعند الشدائد تذهب الأحقاد، لكن أهل مؤتمر الشيشان لم يأخذوا بقول هذا الإمام الفذ الحكيم. ثم نجد ابن تيمية، يرحمه الله، يوسع من دائرة أهل السنة توسيعا لافتا، فيقول في كتابه "منهاج السنة": "فلفظ "أهل السنة" يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة".
وإذن فلمفهوم أهل السنة عند ابن تيمية معنيان؛ معنى عام يشمل كل من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، ومعنى خاص هو أهل الحديث الذين سماهم "أهل السنة المحضة".
ثم نجد ابن تيمية في موطن آخر من الكتاب نفسه يقول: "وإذا كان المقصود نصر حق اتفق عليه أهل الملة أو رد باطل اتفقوا على أنه باطل نصر بالطريق الذي يفيد ذلك وإن لم يستقم دليله على طريقة طائفة من طوائف أهل القبلة بين كيف يمكن إثباته بطريقة مؤلفة من قولها وقول طائفة أخرى، فإن تلك الطائفة أن توافق طائفة من طوائف المسلمين خير لها من أن تخرج عن دين الإسلام".
فتأمل هذا الاتساع، وهذه الحكمة، على الرغم من الخلاف الحاد الذي كان له أسبابه بينه وبين الأشعرية.
ودعني أختم بعبارة عظيمة، للفقيه الحنفي الرحّالة محمد بن أحمد المقدسي في كتابه الشهير (أحسن التقاسيم)؛ إذ يقول إن الكرّامية (وهي فرقة لا يعدها الأشعرية من أهل السنة على الرغم من اتباعهم لأبي حنيفة في فروع الفقه)، يقول: "الكرّاميّة أهل زهد وتعبّد ومرجعهم إلى أبى حنيفة وكل من رجع إلى أبى حنيفة أو إلى مالك أو إلى الشافعي أو إلى أئمة الحديث الذين لم يغلوا فيه، ولم يُفرطوا في حب معاوية ولم يشبهوا الله ويصفوه بصفات المخلوقين فليس بمبتدع، وأنا عازم على أن لا أطلق لساني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا أشهد عليهم بالضلالة ما وجدت إلى ذلك طريقا". 

رائد السمهوري- الوطن السعودية-