دعوة » مواقف

مؤتمر جروزني بعد أن هدأت الأصوات

في 2016/09/24

هذا المؤتمر والردود العاصفة التي قابله بها السلفيون امتداد لإرث القرون السابقة، حيث كانت المعارك تنشب بين الحنابلة والأشاعرة، إذ ابتدأت تلك المعارك بما عرف بفتنة القشيري في بغداد عام 469هـ، إذ نشبت بينهم حرب شوارع استعملت فيها الحجارة، ولم تخمد إلا بعد أن فرضت السلطة الإقامة الجبرية على زعيم الحنابلة الشريف أبي جعفر الهاشمي، وأُخرِج زعيم الأشاعرة أبونصر القشيري من بغداد.

وقد لخص زعيم الحنابلة نظرة الطرفين لبعضهما آنذاك في قوله في الجلسة التي عقدها الخليفة للصلح بين الفريقين: «أي صلح يكون بيننا؟. إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية، أو دنيا، أو تنازع في ملك.

فأما هؤلاء القوم فإنهم يزعمون أنَّا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافرًا، فأيُّ صلح بيننا؟»، وقد خفَّت بعد ذلك حدة الاتهامات، فاقتصر كل فريق على تبديع الآخر، وإخراجه من أهل السنة، وأحيانا يميل فريق إلى تكفير بعض رموز الآخر، ففي القرن السادس أفتى بعض علماء الأشاعرة بكفر المحدث الحنبلي عبدالغني المقدسي، وفي القرن الثامن أخضع الفقيه الحنبلي ابن تيمية للمحاكمة بسبب مخالفته لعقيدة الأشاعرة.

وظل الخصام بين الفريقين إلى اليوم، فالسلفيون يقررون في كتبهم ودروسهم ومحاضراتهم أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة، ويقابلهم الأشاعرة بالمثل، وليس صحيحا ما ذكره الأستاذ أحمد عدنان في رده على الأستاذ رائد السمهوري بأن الأشاعرة قد تجاوزوا هذه الآراء، أما السلفية فما زال موقفهم المعادي للمخالف معلنا إلى اليوم، وما زال الفريقان يتبادلان التبديع، ومحاولة احتكار وصف أهل السنة.

وإذا كان موقف السلفيين واضحا في هذا المجال نظرًا لحضورهم الواسع في الانترنت، وتفردهم في المشهد السعودي خاصة فإن الأشاعرة المعاصرين ليسوا بأقل منهم في هذا الشأن، وحسبك تنظيرات المشايخ الأشاعرة المعاصرين عبدالله الغماري وحسن السقاف وعلي جمعة في تبديع السلفيين ومهاجمتهم، وعلى هديهم سار تلاميذهم كما في المنتدى الأزهري في الانترنت (وهو خاص بطلبة وأساتذة الأزهر)، أي أن الجميع أشاعرة وسلفيين ما زالوا منخرطين في صراعات الماضي، ومؤتمر جروزني وما سيلحقه من مؤتمرات - كما أعلن أصحابه - سيزيد من هوة الشقاق والفرقة.

ومن تهوين الأمر الاعتقاد بأن تنصيب الأزهر أو غيره من المؤسسات الرسمية التقليدية الأشعرية أو السلفية مرجعية لأهل السنة سيؤدي لغلبة فريق، وعزل الفريق الآخر، والقضاء على تأثيره، وذلك لأن أمر الفتوى والتأثير الديني لم تعد قاصرة على المؤسسات الدينية، بل تكاد تكون هي أضعف المؤثرين في الساحة الدينية، فالأوساط الشعبية توزع التأثير الديني فيها بين الفقهاء المنضوين إلى حركة سياسية إسلامية، والفقهاء المستقلين ممن له حضور إعلامي سواء كانوا سلفيين أم أشاعرة، فالانفتاح الإعلامي كسر الاحتكار الديني، وأصبح المستفتي في إندونيسيا يستطيع أخذ الفتوى من فقيه في موريتانيا، وانتهت إلى غير رجعة محاولة تنصيب مرجعية واحدة.

والنجاح الوحيد لمؤتمر جروزني هو إعادة الصراع إلى الواجهة، وجر عوام القراء للانخراط في الصراع، فقد رأينا التغريدات التي كتبت في الهجوم عليه حيث بلغت أكثر من نصف مليون تغريدة، وأعانه على إذكاء الصراع انخراط المنظرين السلفيين في ردهم على المؤتمر في إعادة مفردات الخصام العقدي في قضايا الصفات بين الأشاعرة والسلفيين.

والحق أن من أراد الخير للأمة ولأهل السنة خاصة فعليه بدعوة العقلاء من الفريقين لرأب الصراع وطرح ميثاق وحدة بين تيارات أهل السنة، فما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، فالخلاف بينهم ينحصر في بعض قضايا القدر، وقضايا الصفات الإلهية، وبعض التصرفات الصوفية، وهي كلها خلافات في دائرة الممكن في فهم النص الشرعي؛ إذ هي بين الأخذ بظاهر النص أو بتأويل النص وفق منطوق اللغة، مع الإقرار بحق كل فريق بالتمسك بما يراه صوبًا، وطرح الحوار في الخلاف في هذا في الدوائر المغلقة على العلماء وطلبة العلم بعيدا عن الفضاء العام الذي يؤدي إلى الفرقة والخلاف، فمشاكل الأمة اليوم أكبر من قضايا فرعية مختلف فيها بين السلفيين والأشاعرة، فالأمة اليوم مهددة في وجودها، وما يواجه الشباب اليوم ليس إشكالا في إثبات صفة من صفات الله أو تأويلها، أو قناعة بسلوك صوفي ما، بل ما يتهددهم هو إشكالات حول الدين نفسه، وهو ما جعل فئة من الشباب ليست قليلة تعتنق الإلحاد، وإشكالات في قضايا الحكم بتكفير المسلمين وقتلهم، وغيرها من القضايا التي هي بحاجة لوحدة الأمة لمعالجتها.

سليمان الضحيان - مكة السعودية-