تذكرت أيام الصحوة وما كان يحدث فيها من توهمات وحكايات تختزنها الصور بتفاصيل ألوانها، أتتبع خيوطها التي تصلها بصور أخرى من على المنابر وعلى مطوياتهم وأشرطتهم غرضها نشر الخوف وزراعة القلق وكره الآخر وتشويه ثقافة المجتمع، في مقطع على قناة «اليوتيوب» باسم «يهودية دعا عليها الشيخ سعيد بن مسفر فماتت»، يظهر فيه سعيد بن مسفر، ومعه عائض القرني ومقدم البرنامج، على قناة «الرسالة» الفضائية، مستعرضا مهاراته وإمكانياته في الدعاء على الآخرين بقوله نصا في المقطع المبثوث:
[«... من ضمن المشاهدات التي لفتت نظري، أننا كنا مرة في أمريكا، في ولاية كاليفورنيا،
في لوس أنجلوس، وكنت خطيب الجمعة، فلما جاءني الخطيب فهد الثميري من الفندق ليأخذني علشان نروح نخطب، وفي الطريق شاهدت امرأة عجوزا، شيباء، رأسها كأنه قطن، وفي يدها كلب وآلة تحسب بها واقفة عند مدخل المسجد، فسألت قلت: أيش هذي؟ قال: هذي يهودية لعينة تقوم بعدِّ السيارات التي تدخل في موقف المسجد، لأن المواقف محددة، يقول إذا دخلت سيارة واحدة زيادة عن العدد المحدد تقدم للبلدية شكوى في المسجد عشان تنظم عليه غرامة...».
يقاطعه مقدم البرنامج بقوله: تنتظر فرصة عشان تؤثر في.... شوف الخبث!
ليقول ابن مسفر: «كل جمعة.. قلت له: طيب ليه ما تدعون عليها.. ادعُوا عليها. قال: ادعُ عليها أنت؟ فدعينا عليها أنا وايّاه في تلك اللحظة».
يتداخل عائض القرني بقوله: «هذا من أساليب الدعوة بالحكمة».
يرد عليه ابن مسفر: «لا.. هذا من أساليب استنصار اللازم..».
يقول: «وأنا أدعو الله عندي يقين بـأنه لن يخيبني.. ومرت الأيام.. عشرة أيام.. الجمعة الثانية، إلا وهي غير موجودة، فاستغرب قال: والله ما تغادرنا ولا جمعة.. قالت: أرجوك أن تسأل. سأل عنها، قالوا: ماتت.. استجاب الله عز وجل دعائي فيها وكفانا الله شرها».
يتداخل المقدم بقوله: «أجل إنت يا شيخ كل ما ذهبت إلى بلد تدعو على واحد أو كم نفر؟»
ليجيب ابن مسفر: «أنا أدعو على الكفار والحمد لله، لكن الشيخ – مشيرًا بيده ناحية القرني – يذبحونه الكفار».
(يضحكون ملء أفواهم)].
حرصت على تفريغ هذا المقطع بكل ما «طفح به من فواجع»، لأضع القارئ في صورة قلمية لما شاهدته ليكون تعليقي مبنيا على النص الأصلي، لما ينطوي عليه من مفاهيم سمم بها مثل هؤلاء «الدعاة» الأفكار، وحرّفوا بها رسالة الرحمة عن مقاصدها السنيّة الساعية نحو السلام والأمان والرأفة بخلق الله، فالخطاب القرآني واضح في ذلك «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
ولن أذهب للتشكيك في القصة المروية، ولكني فقط أشير إلى تناقضها، فقد صادفوا المرأة اليهودية في الطريق، ثم وجدوها عند مدخل المسجد، وأن الجمعة الثانية حلت بعد «عشرة أيام كاملة»!
هذا ليس من شأن هذه المقالة أن تذهب في استقصائه والتنويه إليه، ولكنها تذهب إلى جوهر حمولة الغبن والرغبة في الموت والتدمير التي تنطوي عليها عقول مثل هؤلاء الدعاة، الذين يرون في «يهودية» وقفت عند مدخل المسجد لترتيب «الفوضى» المحتملة من زيادة السيارات عن عددها المحدد، سلوكا «خبيثا»، لا سبيل إلى وقفه إلا بالتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء ليفنيها من الوجود بالموت الزؤام، دون مرور بأي مرحلة من مراحل الدعوة النبوية الرحيمة بالتي هي أحسن، وطلب الهداية للعاصي.
فيا «ابن مسفر» ما دمت تملك هذه الموهبة في قبول الدعاء، والإحساس المطمئن لاستجابة الله الفورية، ألم يكن حريا أن تستلهم نهج القرآن العظيم وسنة سيد المرسلين في هذه المقامات التي أمرنا فيها «بالتي هي أحسن».. ألم يكن من الأوفق لك –وأنت المستجاب الدعوة– أن تدعو لها بالهداية والدخول في الإسلام، ألم يكن ذلك خيرا لك من حُمر النعم، فالله الذي استجاب لك –بزعمك– في موتها، لن يعجزه أن يكرمك بهدايتها إن دعوت لها، فانظر ماذا فعلت بها، وقد عجّلت بها إلى النار، لا لشيء إلا لأنها حاولت أن تنظم «الفوضى» التي اعتدنا عليها أمام مساجدنا، وانظر موقفك هذا وموقف سيدنا رسول الله، عند مرور جنازة يهودي، واستعباره صلّى الله عليه وسلّم عليها، وقوله لمن استنكر عليه ذلك: «نفس تفلتت منا قبل أن نلحقها».. هيا انظر إلى «دعائك المميت» مع هذه الصورة، وغيرها من صور الرحمة المحمدية، وانظر أين أنت –وأمثالك– من الدعوة بالحسنى، والرحمة المتوطنة في الرسالة المحمدية الخاتمة والتي شوهت من قبل بعض الدعاة وتجار الصحوة والفجور في الخصومة والدعاء على كل مخالف.
هزمتنا مثل هذه القصة يا «ابن مسفر»، ورسخّت في وعي أبنائنا ثقافة الموت وكراهية الآخر، والأنكأ والأمرّ أنها «تتباهى» بمواهب الدعاء على الآخرين، متوهماً حسن الإجابة، وأخشى عليك من أن يدخل معك «أحد الخبثاء» في رهان لإثبات هذه الموهبة بالدعاء على الكيان الصهيوني قاطبة، وكنسه ورميه في البحر وتحرير القدس، بدلا من «يهودية» عجوز، هي بعامل العمر في عداد الموتى دون حاجة لدعاء خطاب صحوي عفا عليه الزمن ولم يعد له مكان بيننا.. الله يهديكم!!.
نجيب يماني- عكاظ السعودية-