يلتقي باروت في التحليل الذي قدمه في بحثه (المؤثرات الفكرية السلفية على الحركات الإسلامية المعاصرة) مع وجهة نظر مرتضى المطهري التي كان قدمها في كتابه (الحركات الإسلامية في القرن الأخير)، الصادر في نهاية العقد السابق من القرن الماضي، أن الدعوة الوهابية هي سبب تراجع الإصلاحية والنهضة الإسلامية التي بدأها في العالم العربي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ويختلف تحليله عن وجهة نظر مرتضى المطهري، بما يلي:
أنه اعتبر رشيد رضا هو الجهة التي تسربت من خلالها الوهابية إلى المدرسة السلفية العقلانية الحضرية، وأنه هو القنطرة الوحيدة التي انتقلت الوهابية عبرها إلى التأثير في فكر الإخوان المسلمين، بينما أغفل مطهري اسم رشيد رضا، وذكر أسماء اصلاحيين إسلاميين آخرين. أن باروت لم يستخدم عبارات حادة – كما فعل المطهري – ضد أحمد بن حنبل والحنبلية وابن تيمية. أنه جهد في عزو صياغة المودودي وسيد قطب لمفهوم الحاكمية إلى تأثرهما بابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب. أنه لا يذهب إلى مثل ما ذهب المطهري إليه من أن سبب انجذاب الكثير من الشباب العربي إلى تيارات سياسية واجتماعية علمانية، هو – كما يرى – أفول الفكر الإصلاحي في العالم العربي.
أشرت في إحدى مطارحاتنا في هذه الزاوية إلى اسم محمد أسد واسم كتابه:
(الإسلام على مفترق الطرق) وإلى اسم الدكتور محمد محمد حسين واسم كتابيه: (حصوننا مهددة من داخلها) و(الإسلام والحضارة الغربية) وإلى اسم الدكتور محمد البهي واسم كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) وسأعيد الآن أسماء كتبهم المذكورة لكن في سياق مختلف. هذا السياق هو أن تلك الكتب المذكورة، وكتاب سيد قطب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وكتب أخرى هي: (الجهاد في الإسلام) و(نظرية الإسلام السياسية) و(موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه) و(والإسلام والجاهلية) و(المصطلحات الأربعة في القرآن) و(نحن والحضارة الغربية) و(الحجاب) إلخ... للمودودي، و(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) و(إلى الإسلام من جديد) و(ردة... ولا أبابكر لها) و( المد والجزر في تاريخ الإسلام) (بين الصورة والحقيقة) و(بين الهداية والجباية) و(الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية) إلخ... لأبي الحسن الندوي و(جاهلية القرن العشرين) و(هل نحن مسلمون؟) لمحمد قطب، و(الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية) لمحمد المبارك، هذه الكتب كلها قامت بالأدوار التالية: أنها جميعها غيرت في مجرى الفكر الإسلامي الذي نشأ في القرن التاسع عشر في الهند وفي مصر، نشأة تقدمية تنويرية توفيقية، ونحت به إلى الأصولية. أن بعضها انتصر ضمناً وبعضها الآخر صراحة لأفكار المعارضين والرافضين لاتجاه المؤسسين كأفراد ومستمرين كتيارات فاعلة في الهند، ولم يحدث لها ولهم اندثار كما كان هو الحال في مصر. أن بعضها مثل أعمال المودودي والندوي أنشأت مفهومي الحاكمية والتكفير في العالم الإسلامي، وهما المفهومان اللذان برزا بقوة في أعمال سيد قطب التالية لكتابه: (العدالة الاجتماعية في الإسلام). أن بعضها مثل كتاب أبي الحسن الندوي (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية) – الذي كان قد صدر عام 1965، وقبل أن يتوسع في موضوعه كان عبارة عن مقال طويل نشر عام 1962، وطبع في كتيب عنوانه (موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية) عام 1963 – وكتاب محمد المبارك (الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية) الصادر عام 1968، قسمت تاريخ الفكر الإسلامي الحديث إلى أطوار، جعلت طورها – طور المفكرين الإسلاميين الأصوليين – هو الواعي والمتوازن والصحيح في فهم الإسلام وفي موقفه المعادي للثقافة والحضارة الغربية، ثم أصبح تقسيم الندوي والمبارك هو السائد في مناهج الثقافة الإسلامية التي تدرس في أكثر من جامعة في عدد من البلدان العربية والبلدان الإسلامية، والسائد في الأدبيات الإسلامية التي نمت في سبعينيات القرن الماضي وازدهرت في ثمانينياته. أن الكتب التي ذكرتها هي من المراجع الأساسية للحركة الإسلامية، شيعيها وسنيها.
لننظر في كتاب الشيخ محمد مهدي شمس الدين: (بين الجاهلية والإسلام) ونرى ما يقوله بصدد مفهوم الجاهلية.
يورد في البداية معنى لفظ الجاهلية عند فيليب حتي ومعناه عند جولدزيهر، نقلاً عن كتاب أحمد أمين (فجر الإسلام) ومعناه عند مؤرخ ماركسي هو، ي. أ. يلياييف ثم يستقصي معانيه المختلفة في القرآن، ويتتبع معانيها في كتب السنة والتاريخ والأدب والتفسير. وبعد بحثه هذا يخلص إلى أن الجاهلية «ليست – كما جرت العادة على استعمالها في كتب الأدب والتفسير – صفة تختص بالعرب قبل الإسلام لا يشترك فيها معهم أحد غيرهم قبل الإسلام ولا بعده كما لا يصح إطلاقها عليهم بعد الإسلام، وإنما هي سمة كل مجتمع غير مسلم، سواء في ذلك الشعوب التي عاصرت ظهور الإسلام أو تأخرت عنه». ويعيد التأكيد على هذه الخلاصة، فيتمم حديثه، منبهاً إلى أن «فهم الجاهلية على أنها فترة تاريخية سابقة تخص العرب فهم خاطئ، وإنما هي نظام ومنهاج يمكن أن يوجد في كل وقت، ويمكن أن يمثله كل شعب. وعلى هذا فلا تكون سمة خاصة للحياة العربية قبل الإسلام وإنما هي اسم للحياة غير الإسلامية، سواء في تلك التي سبقت الإسلام أو عاصرت ظهوره، أو تأخرت عن مبدأ ظهوره وخالفته في نظامه ونهجه، ونظرته الكلية إلى الكون والحياة والإنسان. ومن هنا فمن الطبيعي إذن أن نتحدث عن الجاهلية الحديثة».
يتفق الشيخ محمد مهدي شمس الدين مع المودودي والندوي وسيد قطب ومحمد قطب في عولمة الجاهلية في التاريخ السحيق والبعيد والتاريخ المتأخر والقريب ويتفق معهم أنها ليست إشارة إلى فترة زمنية محددة وخاصة بالعرب، ويختلف معهم – كما هو رأي بعض علماء الدين السنة وبعض المنظرين الإسلاميين السنة – في إطلاق وصف الجاهلية على العرب وعلى الشعوب الأخرى بعد إسلامها.
ويتفق مع المودودي والندوي وسيد قطب ومحمد قطب في اعتبار الحضارة الغربية جاهلية حديثة، وذلك في الفصل الذي عقده بعنوان (الجاهلية الحديثة) الذي عدد فيه سماتها التي تتمثل عنده في المادية والحيوانية واللا أخلاقية وروح العدوان، وهو حديث لا يخرج في نطاقه عما كان يقوله المودودي والندوي وسيد قطب ومحمد قطب وآخرون من كتاب الثقافة الإسلامية في طورها الأصولي.
ولقد تساوق في ما كتبه تحت عنوان (الموقف السلبي من الحضارة وحركة محمد عبده) مع التقسيمات التي صنعها الندوي والمبارك، وردد في ما قاله عن محمد إقبال، ما قاله البهي عنه في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي).
وفي مقدمة كتابه، نصح القارئ لتكوين فكرة متكاملة عن الجهود الغربية في هدم الإسلام وإفراغه من محتواه في قلوب وعقول المسلمين، بالرجوع إلى كتاب محمد محمد حسين: (حصوننا مهددة من داخلها).
علي العميم - عكاظ السعودية-