تقلب الإسلاموي ما بين فكره المتشدد المستقل وما بين الانخراط في جماعة تتماثل وأفكاره ومعتقداته، لتقوم بسلب إرادته الفردية وتحويله إلى إمعة في تعاليم التنظيم وأمير الجماعة
البون شاسع بين الإسلام والإسلامي (الإسلاموي) كما هو البون بين السماء والأرض. الإسلام دين سماوي نقي، وما يسيء لنقائه ويعكر صفوه تلك الممارسات البشرية للإسلامي الذي يعتسف نصوصه بحسب توجهه.
سمة الإسلام السماوي السماحة والمحبة والتعايش، غير أن الإسلاموي يعصف بجمالياته ليصبغه بصبغته الأرضية التي تنحو للصلابة وضيق الأفق والكراهية والشعور المطلق بامتلاك الحق والحقيقة.
وعلى هذا يتقلب الإسلاموي ما بين فكره المتشدد المستقل وما بين الانخراط في جماعة تتماثل وأفكاره ومعتقداته، لتقوم بسلب إرادته الفردية وتحويله إلى إمعة يسمع ويطيع ويبايع وينتظم في تعاليم التنظيم وأمير الجماعة ليحظى بالقبول والترقية حتى يصبح قياديا ذا شأن في الجماعة.
عادة ما تكون بداية مدارج السالكين نحو التشدد عن طريق جماعة "الدعوة والتبليغ" أو عن طريق جماعة "الإخوان المسلمون" نظراً للحضور الشعبي القوي الذي تحظى به هاتان الجماعتان والطريقة الجاذبة التي تمارسانها في استقطاب الناس. جماعة التبليغ لديها أسلوب سحري في استمالة المستهدف بسبب المنهج الصوفي العاطفي الذي تنهجه، والأسلوب الأخلاقي الرفيع (الظاهر) الذي يمتاز به أفرادها وخصوصا القدامى منهم.
تعتقد هذه الجماعة أن الوضع الراهن ينطبق عليه الفترة الإسلامية في مكة حين كانت مرحلة بناء الإسلام والدعوة إليه، لأن العالم حاليا، وفق زعمهم، في "مرحلة جاهلية" يشبه بدايات انطلاق البعثة النبوية.
تؤمن الجماعة بأن تبليغ الدين هو عين الجهاد وبالأخص حاليا (وكلمة "حاليا" هذه عمرها 90 سنة، إذ إنهم ومنذ بداية نشأة الجماعة عام 1926 وهم يرددون: حاليا مرحلة مكية)!
يعتقد التبليغي أنه يقوم بعمل الأنبياء بل يقوم بما لم يستطعه الأنبياء! في "مكاتب الياس ص107" يقول مؤسس الجماعة محمد الياس: "وإذا أراد الله شيئا يقوم الضعفاء أمثالكم بالعمل الذي لم يستطعه الأنبياء"
وللوقيعة بالفرد المستهدف، يقومون بعملية "التسميم أثناء التسليم"، والتسليم يكون من خلال تسليمه نفسه والذهاب معهم ليتم التسميم. وهناك يتم إقناعه بالقاعدة المشهورة في أدبياتهم: "إذا أردنا أن نتصل فعلينا أن ننفصل" والمراد بالاتصال هو الخروج معهم والانفصال عن "المحبوبات؛ وهي بيئة الأهل والعمل والأصدقاء والمدينة، ولاحقاً الدولة، مدعمين رؤاهم تلك بآيات وأحاديث وقصص وعظية.
وفي الانفصال هذا يتم تغذية فكر نزع التعلق بتلك المحبوبات والتضحية بكل شيء ومنها المفاخرة بالتضحية بترك الأهل "بواد غير ذي زرع" كما فعل إبراهيم عليه السلام، وكذلك ترك الوظيفة، بل والمفاخرة بأن أحد أبنائه أو والديه يتوفى وهو خارج مع الجماعة دون أن يقطع خروجه، كل هذا تحت مسمى (الجهد والتضحية).
كثير هم من كان "التبليغ" أول محطاتهم الفكرية من عامة الناس وكذلك من المؤثرين والقياديين مثل راشد الغنوشي أو حتى من الإرهابيين مثل أسامة بن لادن وجهيمان.
بعض الدعاة والمحتسبين خرجوا من عباءة جماعة التبليغ من خلال مبدأ يرددونه كثيرا "نجتهد على الطالحين ليكونوا صالحين وعلى الصالحين ليكونوا مصلحين". والحقيقة هم يركزون على عامة الناس "الطالحين" و"المُصلّحة أحوالهم"، وفق تقسيماتهم، ويتجنبون "الصالحين" وأهل العلم خشية النقاش لضعف بضاعتهم العلمية.
غير أن ما يميز هذه الجماعة هو الانشغال بالدعوة لا بالدولة، بخلاف ما يسمى بـ"حركات الدولة" والتي من أهدافها تغيير الأنظمة وإقامة دولتهم كجماعة الإخوان المسلمين، والتي تُعد خليطا من المنشقين من جماعات أخرى، وخليطا من طبقة القياديين والأكاديميين والرموز.
هذه الجماعة هدفها يتجاوز القضايا الدعوية إلى حيث قضية الحاكمية، لذا فهي تهتم بالنخبة من المتدينين وكذلك النخبة من طلاب المدارس المتفوقين، وبالتالي فهي المسيطرة على الشارع الإسلامي من حيث انتشارها وتميز أفرادها على المستوى العلمي والاجتماعي والطبقي.
ما بين هاتين الجماعتين، غالباً، تكون بداية المتدين الجديد، ثم يبدأ في التحولات الفكرية لينتقل إلى محطات صحوية أخرى ذات طابع جديد تتماهى مع طبيعته سواء كانت طبيعته تميل إلى تشدد أكثر أو إلى العنف أو الجانب العلمي. وفي حالات مختلفة لكنها نادرة، ينشق المتطرف عن الجماعات التقليدية لتكوين تنظيم/ تيار جديد كما حدث لأسامة بن لادن، الزرقاوي، الجولاني، وقبلهم محمد سرور زين العابدين الذي انشق من جماعة الإخوان عند قدومه السعودية سنة 1965 ليكوّن حركة جديدة مبتكرة، جمعت ما بين الفكر الإخواني والفكر السلفي، سميت لاحقا بـ"التيار السروري".
فهد الأحمري- الزطن السعودية-