هناك هجمة شرسة على أحكام الدِّين بقصد تشويهها، تدَّعي أنَّها بُنيت على أسس غير صحيحة، خاصَّةً فيما يخص المصدر الثاني الأصلي الذي بُنيت عليه أحكام هذا الدِّين الحنيف، وهو السنة النبويَّة، تجد من أنصاف المتعلمين ممَّن لا علاقة لهم أصلاً بعلوم الحديث، ولم يقرأ أحدهم مصدرًا واحدًا من مصادرها، وما عرف عنها شيئًا يُذكر، وإذا به يلتقط من هنا كلمة، ومن هناك كلمة ليزاوج بينهما، فإذا هما في نظره السقيم حجَّة على أن هذا الحديث لا يُحتجُّ به، أو أنه ناقض نصًّا قطعيًّا، وما علم متى يضاد الدليل دليلاً آخر، ولا متى يقع التناقض بين نصٍّ قطعيٍّ، وآخر ظنيّ، هو يعيش في أوهام جمعها أناس أرادوا هدم الدِّين، فجمعوا أقوالاً للمستشرقين الحاقدين على الإسلام، الذين استخدمهم الاستعمار في الماضي لتشكيك المسلمين في دينهم، ولم ينجحوا، أو من كُتب طوائف قتلتها الخصومة الطائفيَّة فاخترعت للطائفة الأخرى أسبابًا تريد بها هدم معتقدها ولم تفلح على مدى زمان طويل، فأتى هؤلاء على الأثر جادَّين، وفي نفوسهم شيء على الدِّين، يريدون تشويه أنصح حقائقه، فأحدهم كتب مقالاً بعنوان: «شيء من النصِّ اليقينيِّ والنصِّ الظنيِّ»، فيضع قاعدة هوى تقول: (الثابت القطعي الذي يفيد اليقين في الأحكام الشرعيَّة هو القرآن الكريم، وكذا الأحاديث المتواتر روايتها عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أمَّا أحاديث الآحاد فهي تفيد الظن، حتى ولو كان رواتها كلهم ثقات، وصححها علماء الحديث الأوائل في مدوَّناتهم، فإن حديث الآحاد الأرجح أنَّه قد يكون صحيحًا، لكنه لا يرقى إلى القطعي المطلق، لأن صحته تبقى في دائرة الاحتمال القوي)، فهو لا يرى في حديث الآحاد سوى الاحتمال، سواء سمَّاه الأقوى أم لا، وهذا لا مسحة علميَّة عليه أصلاً، فحديث الآحاد، وإن لم يفد عند الأصوليين علمًا يقينيًّا، إلاَّ أنَّ إفادته العمل ثابتة عندهم، وهذا الكاتب لا يعلم أن مبنى الأحكام جلّها على أحاديث الآحاد، لا على أحاديث التواتر، وكثيرها يؤيده نص القرآن الكريم، ولو لم يفد هو الآخر قطعًا، فالقرآن وروده عند الأصوليين قطعي، لكن دلالته قد تكون قطعيَّة، وقد تكون ظنيَّة، وهذا المتحدَّث في الدِّين بلا علم، لا يعلم ولا يدري، كما أنَّ الحديث القطعي أيضًا، وإن كان وروده قطعيًّا إلاَّ أنَّ دلالته أيضًا قد تكون ظنيَّة حينًا، وقد تكون قطعيَّة حينًا آخر، ولا يعرف ذلك إلاَّ عالم بالأصول في الحديث والفقه معًا، أمَّا من يختطف كلمة من هنا، وأخرى من هناك، فيظنُّ أنَّه علم، ثمَّ يقول لا فُضَّ فوه: ومتى ما اختلف نصٌّ ظنيٌّ مع نصٍّ يقينيٍّ كآية قرآنيَّة محكمة الدلالة، فالأولى والمنطق أن نأخذ بالنصِّ اليقينيِّ، والمحكم من آي القرآن ما عُرف المراد منه إمَّا بالظهور، أو بالتأويل، وهو الواضح الدلالة الذي لا يحتمل النسخ، أو لا يتطرَّق إليه الإشكال، أمَّا المحكم فهو الذي لا يحتمل التأويل إلاَّ وجهًا واحدًا، واضح الدلالة، ولا يحتمل النسخ، أو هو المتقن الذي لا يتطرَّق إليه الإشكال، ولنترك الآن المتشابه جانبًا، ولا نشغل النفس به، وليس هو المعنى الذي يريده من خاض في الدِّين بلا علم، فالرجل ينقل ألفاظًا لا يعرف مدلولاتها، ثمَّ يبني عليها أوهامًا، ومثاله الذي أسس له القاعدة عجيب غريب، إذ يقول: إذا اعتمدنا هذا المعيار، واتفقنا عليه، ولا أحد يتفق معه عليه: فإنَّ كثيرًا من النصوص التي رواها المحدثون على أنَّها نصوص صحيحة بمعايير أهل الحديث، لا تكون صحيحة إذا أعملنا هذا المعيار سالف الذكر، وهذه قاعدة ساقطة، لا يقول بها إلاَّ مَن لم يطَّلع على علوم الحديث أصلاً، أمَّا مثاله فيدل على سقوطها، فهو يستشهد بقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً للعَالَمِين)، أنَّه يتناقض مع نصِّ آحاد هو الحديث الذي روى البخاري أصله معلّقًا أنَّ عروة بن الزبير -رحمه الله- قال: سألت عبدالله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت عقبة بن أبي معيط، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبوبكر حتَّى دفعه عنه فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبيِّنات من ربكم أ.هـ، ثمَّ جاءت روايات أخرى تذكر تتمة للحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم -حين عودته قال: أما والله لا تنتهوا حتى يحل بكم عقابه عاجلاً، ثمَّ قال لأصحابه صلى الله عليه وسلم: أبشروا فإنَّ الله عزَّ وجلَّ مظهر دينه ومتم كلمته وناصر نبيه. إن هؤلاء الذين ترون ممَّن يذبح الله بأيديكم عاجلاً، والروايات كثر بعد ذلك بألفاظ مختلفة، وكلها تصب في التهديد لمَن آذى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبوءة بما يحدث لهم بعد في بدر، وهم رؤوس الفتنة الذين عذبوا المؤمنين بمكَّة، ولا علاقة لهذا بقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً للعَالَمِينَ)، ولا تضاد بينهما، ولم يقل أحد من أهل العلم بأن الحديث حكم بقتل كل من لم يؤمن بهذا الدِّين، وما هي إلاَّ أوهام في رؤوس مَن لا يعلمون، فتحدثوا عمَّا تعرفون رحمكم الله، وللحديث بقية، يوم الخميس المقبل.
عبدالله فراج الشريف- المدينة السعودية-