حين يؤكد واعظ من الوعاظ بأن زنا المحارم أهون من ترك الصلاة فهو في الحقيقة غير مخطئ (منهجيا) باعتباره ينطلق من منطلقات تراثية محددة، فهو ملتزم بمنهجه ولم يأت بجديد. الفرق هو فقط في أن هذا الطرح أصبح غير منطقي ولا عقلاني في زمن جديد تطور فيه الوعي قليلا إلى تلك الدرجة التي لم يعد فيها يستسيغ بعض الأطروحات التي تأخذ صفتها الدينية، ومن هنا تصنع الفجوة بين الدين وبين الواقع، كون هؤلاء الوعاظ ينطلقون في أطروحاتهم من الفهم الديني المؤطر بمنهجية تاريخية ثابتة صنعت أولوياتها الخاصة وترتيبها الخاص للأشياء.
في قصة تراثية مشابهة، اشتكى طلاب أحد الأئمة من كثرة دروس العقيدة عند ذلك الإمام، مطالبين إياه بفسح المجال لدروس الفقه والحديث والسيرة، فوعدهم بأن ينظر في الأمر، فجاءهم من الغد مهموما
حزينا، فسألوه: ما الخطب؟ فقال: بلغني أن فلانا من الناس ذبح ديكا لغير الله، فاستنكر التلاميذ ودعوا له بالهداية، ثم لما جاءهم في اليوم التالي أخبرهم بأن ما نقل إليه بالأمس غير صحيح، وأن الرجل لم يذبح ديكا لغير الله بل زنا بأمه، فاستنكر التلاميذ استنكارا شديدا وغضبوا وثاروا وطالبوا بقتله، وحينها أخبرهم بأنه حين نقل لهم أن فلانا وقع في الشرك لم يستنكروا ولم يغضبوا بمثل استنكارهم وغضبهم حين وقع فيما هو أقل إثما. ثم قال: نعود إلى دروس العقيدة.
كل هذه الجذور التاريخية تؤسس نمطا تربويا عند كثير من الوعاظ والدعاة سيجعل لهم أولوياتهم المنطقية الخاضعة لمعايير معينة، ليس من بينها بالضرورة المعايير الإنسانية والأخلاقية والحقوقية والحضارية التي ستأتي في مراتب متأخرة من حيث الأولوية لمصلحة محددات تحرص عليها كثيرا بعض تلك الاجتهادات المذهبية والفقهية والعقائدية، وتحرص على تقديمها فوق أي شيء آخر. ومن هنا تصنع الفجوة الزمنية والإنسانية بين المنطق الديني وبين الواقع.
هذا الأمر بدوره سوف يصعب من مهمة التصحيح الديني المفترض لبعض تلك المعايير وتلك الاجتهادات وذلك الفهم المنهجي من سياق النصوص وغاياتها المقاصدية، وبالتالي يستمر هذا التنافر منتجا المزيد من التمرد إلى ما لا نهاية، وهذه هي النتيجة التي وصلت لها المسيحية في الغرب بسبب تعنتها سابقا في مقاومة الفلاسفة والمفكرين، بل ومقاومتها للحركات الدينية نفسها من خارج الثوب الكاثوليكي، كما حصل من اضطهاد للبروتستانت من أتباع لوثر وكالفن اللذين حكم على كل منهما بالهرطقة والنفي، ولوحق أتباعهما بطريقة أنتجت العديد من المذابح التي انتهت بالوصول إلى حقيقة التعايش وأنه هو السبيل الوحيد، وأن الحرية هي الخيار وليكن الأصعب.
هذا الدرس التاريخي علينا الاستفادة منه، ولكن تحت وطأة الإعجاب المطلق بالذات والأنا والمنهج والمذهب والحزب والطائفة لن يكون هناك أي تصحيح، إلا حينما تصل تلك الحاضنة المرجعية إلى ما وصلت إليه الكاثوليكية في الغرب حين اضطرت اضطرارا مكرها لأن تتماشى مع الواقع الجديد، وأن تعيش معزولة عن الحياة العامة، بعد أن كانت هي الآمرة الناهية في أوروبا كلها، وبعد أن كانت تتدخل في تعيين الأباطرة والملوك أصبحت تعيش فقط في صباح كل يوم أحد لاستقبال بضعة أشخاص لا يزالون متدينين، أو زوجين يريدان عقد زواجهما داخل الكنيسة.
هذا غير الإغلاق المستمر للكنائس والكاتدرائيات في بريطانيا وكثير من دول أوروبا بسبب عزوف الناس عن المواظبة على الطقوس الدينية. هنا قد تصل المرجعيات الدينية إلى إدراك ضرورة المصالحة مع الزمن وتصحيح الأفكار، ولكن بعد فوات الأوان تماما. كل ما نطلبه هو منع التناقضات من التسلل لوعي الأجيال.
وحيد الغامدي- مكة السعودية-