في مشهد لا ينسى أمام شاشة الكاميرا، وقف الداعية بندر الخيبري ممسكا بعلبة ماء صغيرة، محاولاً من خلالها نفي نظرية دوران الأرض، مؤكداً أنها ثابتة لا تدور، فذلك «مقرر لدينا بالأدلة العقلية أيضاً.. حتى نحن لدينا عقول ونفكر، فلو كانت الأرض ثابتة، لما استطعنا أن نصل للصين بالطائرة، وربما لو توقفنا في الجو لوصلت إلينا بدون أن نسعى إليها.. كل هذه أمور لا يقبلها العقل، حتى مسألة وصول الإنسان للقمر هي مجرد كذبة هوليودية».
هذا الأسلوب في التعامل مع النظريات العلمية، والمكتشفات الحديثة خصوصا ذات المنشأ الغربي، يكاد يكون عاملاً مشتركاً في الخطاب المحافظ، سواء كان تقليدياً، أو صحوياً، أو متزمتاً موغلا في الانغلاق والتشدد، وهو الأسلوب الذي يقوم على الاستسهال والجرأة في نقد النظريات العلمية، والتعامل معها بوثوقية عالية، وإطلاق الأحكام التعميمية، وكأن تلك النظريات صنيعة يوم وليلة، أو مخطط موجه «لاستهداف بلاد المسلمين»، فتتحول موضوعات العلم من مجالها الأساسي الذي يقوم على الجدال والمحاججة القائمة على الأدلة والبراهين إلى حلبة للصراع، ومواجهة مفتوحة مع «الأعداء الذين اخترعوا هذه النظريات لغزونا»! ولذلك يكتفى في نقض نظريات كالماركسية والدارونية والرأسمالية والوجودية وغيرها، أن توصم بأنها «صنيعة الماسونية والقوى اليهودية للسيطرة على العالم وإفساده»، وهذه أدبيات تطفح بها كتب الإسلاميين التي تقدم في مجملها نقدا هزيلا، إنشائيا رديئاً للمذاهب والأفكار الحديثة، تعيد وتكرر هذا الكلام، حتى يرتاح ضمير القارئ، فلا يجد أدنى حرج أو غضاضة بعدها أن ينسف هذه النظريات دون بصيرة أو علم، ويضع بينه وبينها حاجزاً باعتبارها مجرد أداة مؤامرة عالمية لاستهدافه.
وقع بين يدي أخيراً كتاب في هذا السياق، يعبر عن هذه الروح المشتركة في التعامل مع النظريات العلمية، بعنوان (هداية الحيران في مسألة الدوران)، صدر عام 1992 لعبدالكريم بن صالح الحميد، وهو رجل منشغل بطلب العلم الشرعي، تروى عنه الغرائب والعجائب حول طبيعة حياته، وانعزاله عن الدنيا الحديثة، ورفضه لاستخدام المنتجات المعاصرة من أجهزة ووسائل نقل، ومسكن، أو تعامل بالعملات الورقية ذات الصور.
يقول في مقدمة الكتاب: «إن مما عمت به البلوى في هذا الزمان هو دخول العلوم العصرية على أهل الإسلام من أعدائهم الدهرية المعطلة، ومن أمثلة هذه العلوم المفسدة للاعتقاد القول بدوران الأرض، وغيره من علوم الملاحدة الذين لا يقرون بوجود الخالق... بل إن اعتقاد دوران الأرض أعظم من اعتقاد تسلسل الإنسان من القرود، بل هذا الأخير فرع من الأول، وإنما اتضح للناس أكثر بطلان تسلسل الإنسان من القرود، والتبس عليهم كثيرا أمر دوران الأرض، ومما يؤسف له أن تصدى لترويج هذه الفكرة كُتاب ينتسبون للإسلام، تأولوا كثيرا من أدلة الكتاب والسنة، زاعمين أنها تؤيد هذا القول ولا تعارضه».
إن القول بدوران الأرض ليس مجرد أخذ بنظرية علمية فحسب، بل له أبعاد ومخططات خطيرة تستهدف نقل المجتمع المسلم إلى الإلحاد – بحسب الحميد – «فقد كان من آثار القول إن الأرض تدور حول الشمس أن اعتبرت الدول الأوروبية كل الذي عاش فيه الإنسان من تطلعه الدائم إلى السماء وربط مصيره بيوم القيامة، والوعد والوعيد والجنة والنار هو من أوهام العقل وترهاته، وأصبحت الصيحة التي تمثل الحضارة والمدينة الحديثة هي تحطيم هذه الآمال عن التعلق بالحياة الآخرة والإخلاد إلى الأرض».
بل إن الإيمان بدوران الأرض قد يكون مفضيا للوقوع في اعتقاد وحدة الوجود كما يقول، فهذه «النظرية ليست مقصودة لذاتها، وإنما مقصودة لغيرها، إذ هي حلقة من سلسلة تبدأ من التعطيل وتنتهي إليه، ومعتقدها يلتزم من أجله لوازم في غاية الخطورة، حيث يلتزم أن ما فوق الأرض من كل جانب هو فضاء لا نهاية له، ومن يقول بذلك منكر لوجود الرب سبحانه، أو في أقل أحواله واقع في عقيدة وحدة الوجود».
وبعد أن أورد الحميد أدلة من الكتاب والسنة استنتج منها أن الأرض ثابتة لا تدور، قال: «من صدق الملاحدة وتابعهم في اعتقادهم فإنما خطفه الشيطان وسافر به سفرا خياليا، وهميا لا حقيقة له، ولا وجود ليضله عن ربه، كما أضل الملاحدة الذين أنكروه.. فالذي لا نشك فيه أن القوم يتكلمون عن أشياء يتخيلونها، ليس لها حقيقة ثابتة في الخارج».
قد يأتي قائل، ويعترض على إيراد مثل هذه النصوص التي تناقش نظرية دوران الأرض بأن قائلها قد حرم على نفسه أشياء كثيرة مما أباحها الله، وأبعد النجعة كثيرا في أسلوب حياته واختياراته، وضيق على نفسه وشدد، فمن الطبيعي أن يقول بهذا الرأي المناقض لأبجديات العلم الحديث. وقد يكون لهذا الاعتراض وجاهة أو قبول، لكن إن سلمنا بذلك، ماذا نقول عن حال ذلك الداعية الشاب الذي نطق بنفس هذا الرأي بكل ثقة وتباه، ولم يعلم أنه قد وضع نفسه تحت رحمة وسائل الإعلام العالمية وهو يتعاطى بهذا الشكل مع نظرية علمية غدت من الحقائق المثبتة المسلمة في علم الكون والفضاء.
الأمر الغريب الذي يلفت الانتباه في قضية شائعة كهذه، أنها حين تطرح في أوساط النقاشات العربية والمنتديات تجد اندفاعا كبيرا وحماسة لدى بعض الشباب في التمسك بالمواقف التقليدية القديمة المخالفة للنظريات العلمية، والتشكيك بثقة مفرطة في كل الأدلة والشواهد الحسية والبراهين المتراكمة على مدى عقود، مما يكشف عن أزمة وعي حقيقية، وبنية تخلف راسخة تأبى أن تتزحزح حتى أمام حقائق العلم.
يروى عن الفيلسوف برتراند راسل قصة طريفة أنه كان يلقي محاضرة عن الفلك، وقد أسهب في وصف دوران الأرض حول الشمس، وكيف أن الشمس بدورها تدور حول محور مجموعة كبيرة من النجوم المسماة مجرتنا. وفي نهاية المحاضرة، بدأ سيل من الأسئلة ينهال على المحاضر الهادئ. ومن بين الحضور وقفت سيدة عجوز، ووجهت كلامها إلى راسل مقرِّعة إياه على كلامه «الفارغ»: (إن ما تقوله هراء، فالأرض في الحقيقة مسطحة ومستوية ومحمولة على ظهر سلحفاة عملاقة).
ابتسم راسل ابتسامة لطيفة، وسأل السيدة العجوز: (وما الذي تقف عليه السلحفاة يا سيدتي؟). ويبدو أن السيدة كانت لديها الإجابة الشافية، فقالت هازئة: (إنك شاب ذكي ماهر جداً، إنها سلاحف متراصة بعضها فوق بعض).
قبل 70 عاماً، كان يمكن لعجوز أن تفكر بسذاجة هكذا، فربما لم تسنح لها الفرصة لدخول المدرسة، وكل معلوماتها أخذتها من أمها وجدتها. ويمكن أن نغفر لها إذا علمنا أنها لم تقرأ ما يحدث في العالم من تقدم في نظريات الفيزياء، لكن اليوم لم يعد هذا العذر سائغاً، ولا مقبولاً.