مشكلة المملكة ومنذ بزوغ نجم ما يسمى الصحوة الإسلامية تكمن في الصراعات القائمة بين الحلال والحرام، بين المكروه والمستحب، وما يجوز وما لا يجوز. هذا الصراع تسبب في تأخر التنمية ومكّن عدداً من دول الجوار اعتلاء مراكز متقدمة في تنوع الاستثمارات وجذب رؤوس الأموال وتوفير بيئة السعادة وجودة الحياة. هذه الأيام تدور خلافات واسعة حول جواز الترخيص بافتتاح دور للسينما في المملكة. قبل شهرين تم وأد حفلة فنية كان يفترض أن يقودها فنان العرب محمد عبده وكان أعلن عن إقامتها في العاصمة الرياض. المملكة الفائزة أربع مرات في كأس آسيا لكرة القدم غير قادرة حتى الآن على تنظيم نهائيات هذه البطولة في المملكة بسبب منع النساء من الدخول ضمن الجمهور، ما يخالف أنظمة «فيفا». وتتطلع الدولةـ من خلال تبنيها برنامج «رؤية السعودية ٢٠٣٠»، إلى الانفتاح وتحسين مستوى السعادة ورفع درجات الترفيه، وكل ذلك يصب في تنويع مصادر الدخل. السينما والمسرح والفن والرياضة والسياحة بكل تفرعاتها تعتبر وسائل الترفيه الأولى في كل المجتمعات، وتصل الاستثمارات الموجهة الى هذا القطاع إلى مئات البلايين من الدولارات ويقابل ذلك بالطبع خلق وظائف جديدة ومداخيل مالية هائلة تعود على الشركات المستثمرة، بسبب إقبال الجمهور عليها.
لو أردنا التنوع في «دراما» الحلال والحرام العجيبة، فليس هناك أقرب من التردد في السماح للمرأة بقيادة السيارة. المملكة، ربما بجانب دولة «طالبان» فقط، هي الوحيدة عالمياً في منع المرأة من قيادة سيارتها، على رغم السماح لها بالعمل ومزاولة التجارة. مهما أنفقنا من المال في تحسين صورة الوطن خارجياً، تلاحقنا هذه اللعنة وتحطم كل ما ندعيه. المملكة ما زالت مترددة في منح المرأة الولاية على نفسها، إذ ما زال مشهد الطفل ذي الـ15 ربيعاً حاضراً مع والدته أو حتى جدته ليوقع ورقة تعريف عنها أمام دائرة حكومية أو ليوافق على منحها ترخيصاً تجارياً.
هناك بالطبع محاولات كثيرة وقديمة للتحريم، ومعظمها لم ينجح. يتذكر كبار السن منا تحريم الدراجة الهوائية وكانت تسمى لدى من خافوا منها وقتئذٍ بـ «حصان إبليس». في وقت مضى تم التحذير من القهوة، وأخيراً حرّموا استخدام الصحون الهوائية اللاقطة وأجهزة الاستقبال قبل أن يتسابقوا للظهور على الشاشات. حرّموا «البلوتوث» في الهواتف الذكية ثم حرّموا الهواتف التي تحمل كاميرا وحذروا المسلمين من شرورها من فوق كل منبر. كل هذه المحاولات فشلت وأقبل الناس على التصالح والتعايش مع هذه الوسائل الحديثة.
المضحك المبكي هنا أن الوعي لدى الفرد السعودي والعائلة السعودية تجاوز كل هذا الجدل، فالمرأة السعودية تقود سيارتها خارج المملكة سواء في دول الخليج المجاورة أم حتى في دول أوروبا وأميركا. العائلة السعودية القاطنة في المنطقة الشرقية من البلاد تشد الرحال إلى البحرين فقط لمشاهدة فيلم سينمائي ذائع الصيت. الشعب السعودي وحتى ممن تبدو عليهم سمة الالتزام الديني لا يمانعون الجلوس في المقاهي والمطاعم المختلطة في أي مكان في العالم، وما مصايف تركيا عنا ببعيدة وهي تحتضن الآلاف من السياح السعوديين المحافظين. نسبة امتلاك السعوديين للهواتف الذكية تتجاوز ٢٠٠ في المئة وهذه إحصاءات معلنة. المرأة السعودية تفتتح نشاطات تجارية في دول الجوار بلا وصاية من أي رجل.
أما الآلية المتبعة في نشر هذا الفزع على لسان أحد المشايخ المعتبرين في المملكة فهي في الحقيقة الأكثر عجباً وتكررت كثيراً. تبادر قناة مثل قناة «المجد» الدينية، والكثير منا يعرف توجهاتها وهي قناة تجارية على كل حال، إلى استضافة سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ. أثناء بث اللقاء على الهواء مباشرة والذي يفترض أن يجيب فيه الشيخ عن أسئلة المستمعين والمشاهدين العادية، تلقى مقدم البرنامج اتصالاً مشبوهاً من شخص مجهول ثم منحه الوقت لطرح السؤال. تحدث المتصل وألقى السؤال عن جواز السينما أو تحريمها بأسلوب ومحتوى لو سمعه الرئيس أوباما زعيم دولة الحرية في العالم وليس مفتي المملكة لأجاب بالتحريم. بعد ذلك بثوانٍ معدودة انتشر وسم التحريم في «تويتر» بمقطع من جواب المفتي وبدأت حملة التجييش ضد الفكرة. هذا ما يحدث بالضبط وهكذا يتم وأد أي مشروع لا يتناسب مع توجهات البعض. تعمدت الدخول في هذه التفاصيل لأن قراء هذه الصحيفة من خارج الوطن ربما لا يعلمون كيف نحلل ونحرم وقد يتصورون أن الموضوع نقاش وجدل وندوة وتوصيات تتبعها قرارات رسمية.
الآن دعونا نتصور الوقت والمال الذي تم استنزافه لوضع «رؤية السعودية» والتعرف إلى مسببات انحسار التنمية وتردي جودة الحياة في الداخل، ما يتسبب في هرب الملايين من السعوديين لدول الجوار في كل عطلة دراسية، طويلة كانت أم قصيرة. ملايين الريالات أنفقت على هذه الدراسات وآلاف الساعات تم استهلاكها في ورش عمل وندوات واجتماعات وسفر. ثم وفي لمح البصر تدخل قناة «المجد» وتمزج تقنيتها بحسن الظن لدى سماحة المفتي من خلال وجود ذلك «السائل المجهول» و «السؤال المحبوك»، ويتم قتل فكرة وركيزة مهمة من خطط الوطن لحفظ الأموال في الداخل بل ودعوة الزوار للاستمتاع بربوع الوطن ولإنفاق أموالهم لدينا. الموضوع هنا لا يتوقف عند السينما فقط فكم من المبادرات المرتبطة بالتسامح والانفتاح يتم وأدها في مهدها، إما بسبب بدعة الاختلاط أو من خلال سد باب الذرائع وجميعها بهذا الأسلوب الفريد.
المملكة ومنذ عهد الملك المؤسس -طيب الله ثراه- عانت وتعاني من تردد البعض وفزعهم من الجديد تحت ذرائع ملتوية. الحزم والإرادة كانا سيّدي المواقف وهو ما دفع السعودية إلى دعوة الشركات الأميركية للتنقيب عن النفط على رغم اعتراض البعض في ذلك الوقت. خرج النفط ونمت الدولة بقوتها الاقتصادية بل وتم بناء فرق عمل سعودية مهنية وقيادية تعتبر الأفضل عالمياً في صناعة النفط، وأقصد بذلك القائمين على شركة «أرامكو» العملاقة. اليوم، ومع نمو السكان وانخفاض أسعار النفط وتعدد التزامات الدولة، لم تعد هذه الثروة وحدها كافية للوفاء بمتطلبات الوطن ومستقبل أبنائه وبناته. من هنا جاءت خطط الغد في «رؤية السعودية ٢٠٣٠» التي تبناها مجلس الوزراء. ليس أمام السعودية باعتبارها دولة وكياناً خيارات كثيرة لتنتقي منها، ولن يكفيها حتى بناء ثلاث مدن جديدة بحجم الجبيل وينبع ولا تأسيس عشر شركات بحجم «سابك». التنوع في الخدمات ورفع جودتها والانفتاح على العالم وجذب استثمارات الأغنياء هي السبيل الأهم لخلق ملايين الوظائف وتحسين ظروف العيش. الأهم من كل ذلك أن الوقت يحاصر هذه الخطة ويقف حائلاً دون تأجيل أي عنصر من عناصرها، فإما الإقدام وإما الندم في ما بعد.
فهد الدغيثر - الحياة السعودية-