الحديث مع سماحة المفتي فضيلة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ وسؤاله عن حالي ومقالي في تلك الليلة المباركة وسماع كلماته الحانية التي لمست شغاف قلبي من المشاهد التي لا تنسى في حياتي، لاعتبارين مهمين أحدهما محبتي الشخصية لهذا الإمام الفاضل الذي يعد من أهل القرآن والتهجد والورع والعلم ولا نزكيه على الله، ولذلك لا يمكن أن أنسى تلك العبارات التي اختصرها بقوله في حضور أحد طلابه الفضلاء «عبدالرحمن العريفي» «وينك ياولدي، لم أعد أقرأ لك من زمان»، ليلة لا تنسى في ذلك المجلس المهيب الذي عطره حديث سماحته وكرم ضيافته وحضور الشيخين: صالح السدلان والشيخ سليمان أبا الخيل وطلبة العلم وبعض الوجهاء، كيف تنسى تلك الليلة وقد انتهى إلى هؤلاء العلماء في هذا العصر منهج أئمة الدعوة رحمهم الله وتسامحهم وتطبيقاته على طريق منهج السلف الصالح الصراح، والآخر مكانته في العالم الإسلامي التي تستمد من مكانة بلادنا العظيمة المملكة العربية السعودية في العالم والبعد الروحي لها المتمثل في رعاية الحرمين الشريفين والوقوف على حاجات حجاج بيت الله ومعتمريه وزوار مسجد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وكونها مهبط الوحي وانتهت فيها آخر الرسالات السماوية ومواقفها مع قضايا العرب والمسلمين وجهودها التي لاينكرها المنصفون أهل العدالة والصدق والحقيقة.
سمعته وأصغيت له بكل أدب وطمأنينة وهو يهمس لي بصوته الذي لا تكدره الدلاء كما قالت العرب، وعباراته الصريحة وكان كل ذلك المشهد بين يدي هيبة والد وقور وعالم نحرير ومسؤول عاقل ورجل حكيم وإمام صابر محتسب بقسماته التي تؤكد سماحته وطوله الفارع الذي يؤكد رسوخ علمه، ووقار سماحته يحملنا مسؤولية الإشادة وتحقيق وصيته بالصبروالثبات على منهج السلف الصالح ومعتقد أهل السنة والجماعة والسير على هذا الطريق طريق المجاهدين وعدم التوقف والتراجع والدفاع عن هذه الدولة المباركة ومواقفها النبيلة -جزاه الله عني وعن المسلمين كل خير-، وبيّن سماحته أنها طريق شاقة لا يستطيع الثبات عليها إلا من أعانه الله على المعوقات وما أكثرها.
في ذلك المجلس وتلك الليلة ما أشد تحمل سماحته المسؤوليات الجسام وهو متابع لكل شاردة وواردة وما أصفى ذاكرته المتوقدة الفتية التي لا تشيخ ولا تضعف، وما أوفى تلاميذه الكرام وهم بين يديه كالحمام الأبيض المحب للسلام والوقار والعلم، يتسابقون عليه وإليه جميعاً وهو جالس يوجه وينصح ويستدل ويوصي بالرحمة والثبات على المنهج والدفاع عن هذا الوطن العزيز واحتساب ذلك والصبر عليه، صورة تؤكد أيضاً أن علماءنا الكرام يحملون هم هذه الأمة التي لا يمكن أن تصلح حالها إلا بالسير على منهاج النبوة القويم منهاج السلف الصالح ومعتقد أهل السنة والجماعة المُبَرّأ الموفور، وأنهم مطلعون على كل القضايا ويتصرفون بسياسة شرعية متوازنة، لا بريق الباطل يغريهم، ولا سواد الطريق يثنيهم، ولا مغامرات الشباب تستفزهم، ولا نقولات وأخبار أحداث الأسنان تقودهم، ثبتوا أمام الفتن العمياء حينما زلت أقدام الكثير، وأعطوا درساً واقعياً على تطبيقات منهج السلف الصالح في حياة الناس، فعصم الله بهم الأمة حتى ذاقت حلاوة النجاة ولمست مآلات العقل والحكمة في حياتها الدنيوية، درسهم العقدي في محنة الحادي عشر من سبتمبر وما يسمى بالربيع العربي سيخلده التاريخ كما خلد موقف الإمام أحمد ابن حنبل في فتنة خلق القرآن وموقف شيخ الإسلام في حروب التتار وتأرجح الأمة آنذاك، سيذكر التاريخ أن العلماء وعلى رأس الجميع سماحة المفتي العلامة الإمام الشيخ الوقورعبدالعزيز آل الشيخ والعلامة الشيخ صالح الفوزان ومعالي الشيخ سليمان أبا الخيل وغيرهم ممن قالوا كلمتهم في الفتن وصرحوا بالحق والمصلحة المرسلة ودرء المفسدة ولم يتوانوا في بيان أن منهج السلف الصالح ومعتقد أهل السنّة والجماعة ميثاق بين السماء والأرض ويصبح مسؤولاً عن عمارة الأرض، في حين يصبح منهج الخوارج والحركيين مسؤولاً عن خراب الأرض وتدمير الحضارات وسفك الدماء.
علماؤنا الكبار بكل فخر وصدق استطاعوا رؤية الأزمات قبل وقوعها وحذروا من نتائج الخطاب الحركي طويلاً، وحينما كان البعض بين شدٍّ وجذب، يصولون ويجولون من داخل تلك الأزمات ولم يستطيعوا الرؤية والثبات؛ فعلماؤنا الربانيون ثبتوا حينما تأرجحت العقول وصار صوت الفوضى يعلو صوت العقل، ولو أن الأزمات ارتفعت لرأى المفتونون كل شيء واضحاً أمامهم ولكن بعد فوات الأوان الذي لا يليق بعالم الزلل فيها، وكما قال السلف الصالح: «الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل»، وثبت علماؤنا الكرام لأن أسرع الناس ردة أصحاب الأهواء والمنافع والمصالح.
تحدث سماحته عن المؤتمر الأخير الذي وافق المقام السامي عليه والموسوم «(جهود المملكة العربية السعودية في ترسيخ وتأصيل منهج أهل السنّة والجماعة والدعوة إليه ودعم قضايا الأمتين العربية والإسلامية)» وأثنى خيراً على عضو هيئة كبار العلماء ومدير الجامعة معالي الشيخ سليمان أبا الخيل وتحدث عن الجامعة، وأن اختيارها لهذا المؤتمر العالمي يليق بمكانتها العالمية وبخاصة أن من يقودها موثوق بجهوده وعلميته (معالي الدكتور أبا الخيل عضو هيئة كبار العلماء ومدير الجامعة).
وكان فضيلته قد أكد في المؤتمر الصحفي للإعلان عن هذا المؤتمر الدولي أن مضامينه ومفاهيمه وأهدافه ومحاوره يحوي أعمالاً متشعبة ومتنوعة ومتعددة وضخمة جداً تهدف إلى بيان مصطلح أهل السنة والجماعة وخصائصه، وبيان حقيقة منهج المملكة وجهودها في جمع الكلمة ولم الشمل والتحذير من الفرقة والاختلاف، وتقرير العقيدة الإسلامية الصحيحة والدفاع عنها، وتسليط الضوء على دور المملكة في تعزيز قيم الوسطية والاعتدال ومبادئ الإسلام الحقة ومحاربة الغلو والتطرف والإرهاب، وإبراز دور المملكة في تبني قضايا الأمة العربية والإسلامية والدفاع عنها وبيان أثر الجهود الكبيرة للمملكة في إنشاء المراكز وإقامة المؤتمرات والندوات المحلية والدولية لنشر منهج أهل السنة والجماعة، وكذلك َإضافة مد جسور التواصل مع الشخصيات العربية والإسلامية المؤثرة لاطلاعهم على الصورة الحقيقة للملكة العربية السعودية.
وباختصار، فالزمان والمكان والأحداث المتعاقبة والفتن والملاحم التي مرت بهذه الأمة تؤكد أن معتقد أهل السنّة والجماعة هو المنهج الحقيقي الذي يحرص على الثوابت من الخلل والعقيدة من الزلل والحياة من الانهيار والإنسان من العذاب والحضارة من الفناء والدنيا من الخراب، وهو نسبة إلى السنة النبوية الكريمة وجماعة المسلمين وبهما تتحقق المصلحة من الشتات والفرقة والاختلاف والتفاهم مع الشعوب والتعايش مع الناس، وقد ميز الله هذا المنهج بالمعتقد الصحيح والتوحيد البعيد عن الشرك والبدع التي تعكر صفو العبادة وسلامتها وإخلاصها لله وحده جل وعلا ومنهاجها المستمد من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهما شرطان مهمان لقبول العمل.
وأخيراً لاحل لأزمات العالم بمغامرات الحركيين والحزبيين ولن يحل السلام في هذا العالم إلا باتباع منهج السلف الصالح في ضبط العلاقة بين الناس، والتقيد بثوابت الإسلام التي تساعدهم على تجاوز المحن والفتن والسير وراء ولي الأمر سواء أقام الجهاد أم فرض الصلح أم قدم مصلحة أم درأ مفسدة، وبالسمع والطاعة له في غير معصية الخالق، والنصح له بالطرق الشرعية، والحرص على الجماعة وبذلك تستقيم الأمور (لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم... ولا سراة إذا جهالهم سادوا).
د. عبدالله بن ثاني- الجزيرة السعودية-