هل يُمكن لمثل هذا أن يقع؟!
نعم.. وقد حدث فيما مضى بما يفوق الحصر! وهو لم يزل بعْد يقع على نحو ما قد كان لدى»سلفنا» من ظُلمٍ/ وتعصّبٍ/ وفجورٍ في الخصومة وافتئاتٍ على الدين ظاهره النّصرة للشريعة وفي باطنه الانتصار لحظوظ النفس!.
على أيّ حالٍ.. فإنّه ليس لي ممّا عنونتُ به المقالة إلا محض النقل عن الشاطبي إذ أشار إلى ذلك بقوله «والرابع: رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة! بحيث يأنفون أن تُنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ رتبة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير وفوّقوا إليه سهامَ النقدِ وعدوه من الخارجين عن الجادة والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل بل بمجرد الاعتياد العامي. ولقد لقي الإمام بقي بن مخلد حين دخل الأندلس آتياً من المشرق من هذا الصنف الأمرّين حتى أصاروه مهجور الفناء ومهتضم الجانب لأنه من العلم بما لا يَدَي لهم به «الاعتصام 2/348.
لا جرمَ أنه قد تبيّن لك فيما قرأتَه تواً للشاطبي أنّه ما من شيءٍ قد تغيّر بين ما كان سابقاً/ وما يجري لاحقاً ما يسعك معه القول – بشيْ من جزمٍ – إنما كان الشاطبي يتحدّث عمّا نعيشُ بعضاً من تفاصيله أيامنا هذه لكنتَ «مصيباً» إن هي إلا الأسماء التي اختلفت والمواقع الجغرافية فيما الأدوات ظلّت هي ذاتها المتّخذة في خوض «المعارك» تشاجراً فيما بين حماة «الشريعة»! حتى ألفاظ «التجريم» هي الأخرى لم يطلها شيءٌ من التّغير إذ أبقيناها بنقاء «صلفها» جرياً على هدي من سلف كما اجترحها قبلاً «الرعيل الأول» من فلول المتعصّبة!
ولتتضح الحالةُ التي كانت عليها سلطةُ «سلفِنا» (العوام) بأزٍّ/ دفعٍ من «شيوخهم» لا بدّ من معرفة ما الذي جرى للإمام بقي بن مخلد حتى كان من الهيّن بالمرّة أن ينعت بالزنديق والمتنكب لسبيل شيوخ الاستقامة!!
لنقرأ جميعاً: (الفقه المالكي كان هو الذي يسود الأندلس وبلاد المغرب على وجه العموم، فيما كان الناس يرجعون في الحديث إلى الموطأ للإمام مالك.. وعلى عادة «المحدثين» نفر بقي بن مخلد إلى بغداد وغيرها من بلاد المشرق ليتحمّل علم الحديث ويتفقّه في الدين.. فلما رجع إلى الأندلس وكان معه نسخة من «المصنف» لابن أبي شيبة فأخذ الناس يقرأون عليه «المصنف» وحينما رأى فقهاء المالكية هناك إقبال الناس عليه ثارت ثائرتهم وأنكروا عليه ولم يصبروا على اختلافه في رأيهم ومسائلهم ومذاهبهم ولم يتسامحوا له بل نهضوا لمخالفته بالشدة وأذنوا بالحرب ضده.. ووصل الأمر إلى أنّ هؤلاء الفقهاء أثاروا غضب العامة حتى وجد نفسه مضطراً – وجِلاً – يمكث في بيته مرعوباً منهم خشية «القتل» وقد أفلحوا قبلاً في إيقاف قراءة كتاب «المصنف» عليه إذ رموه بالزندقة والخروج عما كان عليه سلفهم الصالح.
فلما بلغ الأميرَ الأموي محمد بن عبدالرحمن الخبرُ لم يجد بدّاً من التّدخل لإنقاذ الإمام من «قبضتهم» وطلبه إليه وما لبث أن عقد المناظرة بينه وبين شيوخ المالكية بين يديه وقُرئ «المصنف» جزءاً جزءاً.. وانتهى الأمر إلى انتصار الإمام بقي بن مخلد إذ انتهت المناظرة بتفوقه وإفحامه لهم والإذن له تالياً بالتحديث ونشر علمه كما يشاء.. وفي المناظرة نفسها التفت الأمير لخازنة كتبه وقال: هذا الكتاب – وكان بين يديه المصنف – لا تستغني خزانتنا عنه فانظر في نسخه لنا» ثم أشار إلى بقي بن مخلد بشيءٍ كبير من إجلال وقال له: أنشر علمك واروِ ما عندك.. وثرّب على شيوخ المالكية عملهم ونهاهم أن يتعرضوا إليه لا بتأليب ولا بقدح..)
وكان على رأس المناؤيين لبقي بن مخلد الفقيه المالكي المشهور «أصبع بن خليل» ذلك الذي تولّى قضاء الأندلس لنصف قرن – خمسين سنة – تامة تامة!! هو نفسه ذلك الذي انتهى به تعصبه إلى الجرأة على وضع أحاديث على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم – كذباً – وفي سبيل الانتصار لمذهبه!
وقد حُفظ عنه القول بـ «لأن يكون في تابوتي رأس خنزير أحب إلى من أن يكون فيها كتاب المصنف لابن أبي شيبة»!!
لمن شاء منكم قراءة «واقعنا» بعيونٍ تاريخيّةٍ فليقرأ تفصيل محنة بقي بن مخلد في سير أعلام النبلاء 13/288؛ 290 ولسان الميزان1/458 ونفح الطيب 3/273 وترتيب المدارك 3/143 وتذكرة الحفاظ 2/630.
وراعي الشاةِ يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب
خالد السيف- الشرق السعودية-