ثمة سنّة كونيّة فرضتها قوانين الحياة المتجددة تتمثّل في ضرورة التغيير المستمر وعدم الجمود على حالة واحدة في ظل التحولات الفكريّة الراهنة، والناتجة عن إفرازات الثورة التكنولوجيّة التي تلاشت معها حدود الثقافة المحليّة، وباتت الثقافة ببعدها الإنساني المشترك هي المكوّن الجوهري المتجاوز للوحدتين المكانية والزمانية.
وفي خضم ذلك التحول الجذري في منظومة الفكر الإنساني، يبرز الخطاب المتشدد والتواق دومًا للبقاء في الماضي كأحد أكثر الخطابات تصديرًا للرؤية الأحادية الرافضة للتنوع الثقافي وقبول الآخر المختلف، أي أننا إزاء خطاب غير متناسب مع ضرورات العصر، وبعيدًا كل البُعد عن فقه الواقع على المديين الحاضر والمستقبل، ولا مجال لسيادة ذلك النوع من الخطابات لما تحمله من أيديولوجيّات رجعيّة تمثل أغلالاً تعيق الإنسان الحديث عن مواكبة منجزات زمانه، وتجره على الدوام نحو الماضي السحيق الذي ليس بالإمكان إحياؤه مجددًا.
المعضلة الكبرى في الخطاب المتشدد أنه خطاب غير متسامح ورافض لمبدأ التحاور والمساءلة المنطقية، ويفترض باستمرار أحقيّته في تحويل رؤاه وأفكاره إلى واقع فعلي، وإن لم يتحقق له ذلك اتجه إلى العنف كوسيلة للتغير بالقوّة، وهي أداة غير حضارية وتكشف عن واقع فكري مأزوم وعاجز عن الاتجاه نحو الأساليب المتطورة لمسايرة المتغيرات الراهنة التي لا تأتي عادة كخيار أمام المجتمعات، بل كضرورة لتحقيق التقدم الإنساني والمعرفي.
الخطاب المتشدد يكشف عن نسقيّة زاخرة بالعنف والصدام، ويتبدى ذلك عادة في نمطيّة الخطابات ونزوعها نحو التهديد والتكفير، والإيمان المطلق بأن لفئة محددة داخل وطن أشبه بقارّة حقّ التفكير وتحديد المصير نيابة عن سائر فئات المجتمع، وهذا الزعم يمثّل لبّ الإشكال في التعاطي مع تلك الخطابات التي تهمّش الاتجاهات الفكريّة الأخرى، وتصمها بالضلال والحياد عن الطريق المستقيم لمجرد أنها اختارت نمطًا تفكيريًا مغايرًا عنها، إذن نحن إزاء منظومة فكريّة إقصائيّة لا يمكن لها أن تبني مجتمعاً يكفل لجميع أفراده حق المشاركة في أي نهضة تنموية.
التغيير في المجتمعات الحديثة لم يعد نتاج أفكار ثلة من أفراده، بل تحوّل إلى إفرازات تحددها منظومة متكاملة من المؤسسات المدنيّة التي تراعي المصلحة العامة، ولا تخضع في قراراتها للتوجسات غير المنطقية أو لاجترار الموروث دون تمحيصه وتحديد ما يصلح لاستعادته ونبذ ما من شأنه إعاقة مسيرة التقدم والنماء.
الخطاب المتشدد بدأ تدريجيًا بالتراجع عن تصدر المشهد المعاش، وسيواجه مع مرور الوقت المزيد من الرفض المجتمعي والعزلة بعد أن أثبتت التجارب الواقعية عدم كفاءته في إحداث أي تقدّم فكري ومعرفي وأخلاقي، وسيحل مكانه تدريجيًا أيضًا الخطاب العقلاني الوطني المؤمن بضرورة الانفتاح على الآخر بما لا يمسّ جذور الهوية ولا يتنافى مع القيم والمبادئ الراسخة والأصيلة.
ياسر صالح البهيجان- الجزيرة السعودية-