يصنف الدكتور مرزوق بن تنباك في خانة المفكرين؛ ذلك أن أطروحاته وآراءه وحواراته تنم عن شخصية معرفية سبرت أغوار التراث واستوعبت معطيات المعاصرة. هنا يبوح لنا بشيء من رؤيته للكون والحياة والناس من خلال مسامرة رمضانية:
• ما سبب إشكالاتنا الكبيرة اليوم، هل فهمنا للدين منها؟
•• ربما لا يعلم كثير من المسلمين أن هناك انفصالا حادا بين النص الديني وممارسة الفقهاء والمفسرين؛ الفقهاء عبّروا عن أهواء وقناعات خاصة ووشحوها بالنص الديني ما جعل المسلمين يتلقون آراء فقهائهم على أنها دين، وهذه مغالطة كبرى تحتاج إلى تصحيح.
• كيف تقرأ سلوك المسلمين في ظل الوحي المقدس؟
•• لا أريد أن أعمم، ولكن الميول البشرية طبعت بصمتها على معظم ما وصل للمجتمع، والاجتهادات في النصوص خلقت فاصلاً بين سماحة النص وممارسة المسلمين، إذ تمت إضافة أقوال وأفعال ليست من دين الله عبر عصور مختلفة، والفرق الإسلامية كلها تدعي أنها على كتاب الله وسنة رسوله إلا أنها عند التطبيق تتعلق بقول فقيه أو مرجع.
• هل يجنح الفقيه للنفعية؟
•• البعض نعم، يفسر النص تبعاً لأهوائه، واستجابة لما في نفسه، ومن هنا جاء التحذير ممن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً لهم من دون الله.
• ما موقفك من التراث؟
•• التراث ركام 1500 عام تقريباً، وكل أدلى فيه بدلوه، اختلفت ظروف الدولة الإسلامية، وتغيرت عادات الشعوب، وطغى الفقه على ذاكرة المسلمين بالنقولات، وعندما نريد تأصيل كل رأي بالدليل الصحيح سنقوض كثيراً من المقولات والنقول، وأنا مع العودة إلى النص الأصلي.
• من أين نبدأ حل إشكالنا مع التراث؟
•• من تحرير العقول من أسر التشبث بكامل التراث، التراث معظمه أو جله هو نتاج مراحل تاريخية ليست تعنينا كثيراً، وفقهاء كل عصر اجتهدوا بما يصلح لعصرهم، وبما يحاول الإجابة عن نوازلهم، ولا أعلم لماذا يحاول البعض إقناعنا بأن أقوال فقهاء القرون الأولى ملزمة لنا مع كل هذه المسافة الزمنية والتحولات الاجتماعية. قطعاً الحل يبدأ بغربلة التراث وإقصاء كل ما لا يصلح لزمننا ليس من باب نقص من سبق. إلا أن هذا الدين يحتاج مجددين معاصرين يستوعبون معطيات الحقبة التي نمر بها، فنحن في عصر تقني والأمم انفتحت على بعضها بصورة غير مسبوقة.
• هل لديك تحفظ على من حاول معالجة بعض القضايا التراثية؟
•• بالطبع لستُ مع تقديس النص التراثي، ولستُ مع تجاوزه وإغفاله، نحن نحتاج إلى عقول واعية تطرح فهمها للناس وتصغي لردود الفعل وتناقش دون تعصب، أنا لستُ مع عبادة النصوص، ولا مع التخلي عنها.
• بماذا تصف الأنظمة الحاكمة للمجتمعات الإسلامية منذ القرن الأول؟
•• أرى أنها صدى لإرادة ووعي وثقافة الشعوب، وهناك تجارب نجحت وامتدت وهناك تجارب اختفت؛ كونها لم تقبل المراجعة والنقد، وإدارة المجتمعات تقدمت اليوم كثيراً.
• ما صبغة الأنظمة عبر العصور؟
•• النظام المدني، دعك من التنظير وتتبع بوعي السياقات، ستجد أن الدولة الإسلامية قامت على معطى مدني.
• ما الشواهد التاريخية على ما تقول؟
•• خير بنو تغلب عمر بن الخطاب بين دفع الزكاة مضاعفة وبين التحاقهم بالروم، فاستشار الصحابة كعادته، وبعدما سمع أن البعض لا يمانع من لحاقهم بالروم، قال «والله لا أدع بني تغلب يلحقون بالروم فيكونون رمحاً في خاصرتنا، فحفظ لهم حق الحماية، والبقاء تحت ظل الدولة الإسلامية مع احتفاظهم بدينهم»، والأمويون، والعباسيون، استفادوا من ساسة ودهاقنة في الحكم من الروم والفرس دون نكير.
• كأنك ممن يكيل المديح للعلمانية؟
•• لولا العلمانية لما تمكن خمسة ملايين مسلم في فرنسا من العيش الكريم في ظل دولة توفر للمسلم كافة الحقوق وتمكنه من أداء شعائره، وتبني له المساجد. بالعلمانية فقط يمكن للدين أن يبلغ المشارق والمغارب نظراً لما تقوم عليه العلمانية من تسامح واحترام لحرية الفرد وعدم التفتيش في خصوصية علاقته بالله.
• ألا ترى أن فهم آيات القتال على إطلاقها وعمومها أدى إلى تفشي العنف اليوم؟
•• غزوة بدر الكبرى كما في النص القرآني كان هدفها تحصيل الغنائم من خلال إدراك عير قريش، والغزو عادة عربية لم تنقطع، ومرة يكون القتال دفاعاً، وأحيانا لإخضاع العرب. والجهاد إشكاليته في أن معظم من يتبنونه اليوم يغفلون شروطه الشرعية.
• هل عالج القرآن الكريم إشكالات الواقع الإسلامي وحلها جذرياً؟
•• القرآن جاء بنصوص عامة، واللغة التي طرح بها الحلول لغة وحي، وربما كانت الاجتهادات في فهم النصوص لاحقاً سبباً في تحميل النص القرآني من المسؤولية ما لا يسوغ تحمله.
• متى انحرف التفسير للنص القرآني؟
•• منذ مقتل عثمان طغى الشخصي على الموضوعي، وثارت حفائظ أنفس، وغلبت المصالح الشخصية، وذهب كل منهم يفتش في النص الديني عما يبرر ما ذهب إليه وما ارتكبه من جرم أو مخالفة وبلغت حد العبث في تفسير النص، كما جاء في الحديث (عمار تقتله الفئة الباغية) البعض قال قتله جيش معاوية فهو باغ. والطرف المتهم ردّ بقوله (قتله من جاء به للمعركة). ومثل هذا في تراثنا كثير، فالبشر هم البشر طيلة تاريخ الكون، الكل يريد التفسير والتاريخ في خدمته، ويوظف النص لمصلحته.
• لماذا نريد توفير أسئلة لكل الإجابات؟
•• هنا تتجلى مأساة التخلي عن قضية تحفيز العقل للتفكير والتأمل والنقاش، ولعلمك الفقهاء السابقون كانوا أكثر حرصاً على براءة ذمتهم في نسبة أقوالهم إلى ذواتهم وليس إلى الدين، ولذا تجد وهذا قول الإمام أحمد، أو مالك، أو الشافعي، أو جعفر الصادق، ولا ينسبون لله إلا ما قاله الله، فينسبون الأقوال للرجال لأنها محسوبة على من قالها، ولم يكن من طبيعة السلف توفير الإجابات وإنما الرد على السائل والمستفتي.
• كيف تقرأ واقع المجتمع السعودي؟
•• مجتمع راكد رغم كل ما في داخله من غليان، وإشكالية مجتمعنا تتمثل في اختطافه من الوعظ الديني، ونيابة الحكومة عنه في كل شيء، ما أحاله إلى مجتمع هلامي ينتظر دوماً ما يفعل به وله.
• ما موقفك من أعراف القبيلة؟
•• كان العرف ضرورة قبل قيام الدولة، الواجب أن نظام الدولة يحل محل العرف القبلي، ومكمن الخطورة في تحول الأنظمة إلى محضن للعادات القبلية ما يوقع في الازدواجية، فالدولة نظامها نظام مواطنة وحقوق وواجبات وعندما تحضر القبيلة فيه تفسده، وتضيع تكافؤ الفرص. وأدعو لتحقيق مفهوم دولة المواطنة والمساواة دون إعلاء لأي قيم واعتبارات مناطقية أو قبلية أو عصبية أو مذهبية أو مغالبة.
• ما وصفتك للخروج من المآزق الخانقة؟
•• الخروج من ضيق الإقليم إلى سعة الوطن، ومن محدودية المذهب إلى سماحة الإسلام.
• كيف أنت مع رمضان؟
•• في روحانية تامة، مع أني لست متديناً بالمعنى الحرفي للكلمة، لكني من المفلحين كما في حديث (أفلح إن صدق).
• ألا يزعجك توصيفك بالعلماني؟
•• إطلاقاً، لكن من يصنف الآخرين، سيصنفونه أيضاً، التصنيف مثل الدور لا حدود له، ولا كوابح، وبعض الجامعات القائمة على سلفية واحدة خرج منها خمس سلفيات بسبب التصنيف.
• متى بدأت الصيام؟
•• وعمري 12 عاماً، وكانت حياتنا بسيطة، وكنا نتعلم أدبيات القبيلة من الكبار مثل تعليم المدارس، وكانت المرأة تحظى باحترام كامل وتحضر المسامرات الرمضانية في فضاء بساطة لا كهرباء ولا مسليات.
• أيهما تؤثر ذلك الزمن أم زمنك الحالي؟
• الزمن الحالي مريح، والحنين للماضي هو حنين للشباب والعمر الذي ولى، وليس حنيناً لكل تفاصيل الشقاء.
عكاظ السعودية-