محمد المزيني- الحياة السعودية-
لمسة الاختلاف في مجتمعنا، وخلاصه من ربقة الرقابة الصارمة، التي كانت تفرضها الجماعات الصحوية، التي لاتزال بقاياها متغلغلة في تفاصيل حياتنا اليومية، ونجحت في وقت من الأوقات في السيطرة بلا منازع على حركة المجتمع، بعدما تمكنت من وأد الحراك الحداثي بلكمات سريعة أجهزت على أقطابه ورموزه، وسحبت صدقية محتواهم الفكري والأدبي، وجيشت المجتمع ضده، لذلك بات للصحوة يد طولى قادرة على التأثير المباشر، ساعدها في تحقيق هذا الإنجاز الكبير برمجة الناس داخل الحراك الصحوي، فتحققت لهم جماهيرية منقطعة النظير بلا منازع، تلك التي أغرت كثيراً من حملة الأقلام والأدباء والفنانين بالانتظام داخل هذه المعمعة، لقد استطاعت إدارة حياة الناس من الخارج والتمظهر بقيمها، أعني الصحوة، إلا أنها عجزت عن التأثير فيه من الداخل، لذلك، وبوصفها ظاهرة جديرة بالانتباه، كنا نراها تتحرك في الشوارع ومن فوق المنابر، وحتى في الأسواق والمحال التجارية، ومع ذلك فإن المجتمع كان مسحوباً بقوة التغيير إلى فضاءات أخرى تصطدم مباشرة بها، فقد امتلأت البيوت بمنصات الاستقبال الفضائي، وهذا يعكس بقراءة فاحصة ومتعمقة والنتائج الحالية تؤكد أن الرسالة الحقيقية من وراء كل ذاك الحراك هو تسنم عرش التسيد، الذي كان يراد منه قيادة توجهات الناس المستغفلين إلى غايات سياسية كبرى، وقد اكتشفنا اليوم، بعدما ضمر صوتهم وخفت اقدامهم عن كاهل مدننا، أنهم لم يكونوا سوى صوت مزعج زرع عبر فترات متلاحقة في أخلاق المجتمع وسلوكه أسوأ الصفات؛ كالشك والريبة اللتين قسمتا المجتمع إلى طرائق قدداً، واستنبتت الكراهية بين أطيافه، على أساس «إن لم تكن معي فأنت ضدي»، مستخدمين أساليب فضائحية من أجل تحقيق غاية العظة والعبرة، وقبيل إحباط نياتهم المبيتة من أجل زج المجتمع في أتون الربيع العربي سوقوا لما يسمى بـ«الشيلات» التي أصبحت وسيلة للتفاخر القبلي وأثارت النعرات، والوصول إلى خطوط تماس ساخنة بين القبائل كادت أن تؤدي إلى صدامات دامية بين أفرادها، كل هذا يعطينا دلالات أكيدة على أكاذيبهم وتلفيقاتهم، وأنهم لا خلاق لهم في ما يدعون الناس إليه ويرغبونهم فيه.
ومن هنا تبرز أول أخطاء الصحوة الفادحة، تلك المتمثلة بوهم كبير أنهم دولة داخل دولة، فساقتهم أطماعهم إلى إحكام قبضتهم على المجتمع ومؤسساته بلا منازع، لذلك، وبطريقة استخباراتية منظمة، سعوا بكل جد واجتهاد ومثابرة غير مسبوقة إلى قولبة المدارس والجامعات وحتى الإدارات والوزارات وفق منهجها بالقوة، فمن يختلف معهم أو يصطدم بهم لا يتورعون عن توريطه بتهمة أخلاقية، إذ تصمم بمهارة وإتقان، لذلك اقتيد أبرياء مغبة رأي مختلف إلى السجون، وكادت محاكماتهم تودي بأرواحهم، وبذلك شيطنوا المختلفين، لم ينتبهوا من غبائهم وأنهم زرعوهم ألغاماً في طرقاتهم، تلك التي انفجرت حالما اكتشف أمرهم، الخطأ الآخر استعداء الدولة باطنياً، لذلك لن نبتعد عن عين الحقيقة متى قلنا إنهم باطنيون سياسياً، ومنافقون اجتماعياً، فلن تجد منهم من يؤمن بقيمة حقيقية للوطن، أو حتى قيمة اعتبارية للحاكم، لأن من أهم المبادئ الإخوانية، إن لم تكن أساسها، هو العمل على تكريس مفاهيم دولة الخلافة وانتظار الخليفة الذي سينهض من بين انقاض الثورات المنتظرة، وهو ما تبين حالما انفجرت أولى الثورات العربية في تونس، وكأنهم هم من مهد لها وأحدثها، وسريعاً التفوا حولها وتسلقوا للوصول إلى ما كانوا يبتغون من خلال الحرية التي تنص عليها الدساتير العلمانية، التي ظلوا يحاربونها ويتهمون كل المنتسبين إليها بالكفر، بيد أنهم آمنوا فجأة بالقوانين التي أتاحت لهم دخول الانتخابات والانتصار فيها، الخطأ الثالث الذي أجهز على الصحوة ورموزها انسلاخهم المباشر من قيمهم، التي كانوا يدعون إليها، كالأمن والسلام والإصلاح، لقد أعلنوا بوقاحة مباركتهم حمامات الدماء المتفجرة في بعض دول الخريف العربي، ضاربين بقيم الإسلام نفسه، الموصوفة بـ«الضرورات الخمس» عرض الحائط، وكشروا عن أنيابهم بفرح وغبطة، ولعل في هذا خير كبير لدولتنا ومجتمعنا، فلو وهبهم الله حكمة ودهاء كافين لما تعجلوا اقتطاف الثمار، ولاستمروا في مصانعة الناس وتفننوا في لبس الأقنعة، إلا أن لله الحكمة البالغة، أن حمانا من ويلات ما كانوا يخططون له ويريدونه، لقد رأيناهم اليوم بعدما سقطت الأقنعة، بوجوه قبيحة، لديهم استعدادات تخريبية مدمرة من أجل إقامة دولتهم المزعومة، حتى لو اضطرهم ذلك إلى التعامل مع الشيطان نفسه فلن يتورعوا عن ذلك، من أخطائهم أنهم ساعة انكشف الغطاء لم يبادروا بتصحيح مساراتهم باتجاه الوطن والتكفير عن كل إساءتهم إليه، بل التزموا الصمت المطبق وكأنهم أصيبوا بالخرس، وهذا بحد ذاته إدانة أخرى، إذ تجد بعضهم علق آماله بخلافة قد تحيا في تركيا، وكأن بصيرتهم عميت عن حقائق لا يمكن أن تطرها الأوهام، تتمثل بأن تركيا دولة علمانية حتى النخاع.
ولن يتنازل الأتراك يوماً عن الدستور الكمالي، والعجب أنك لو سألت أحدهم عن استحداث قوانين علمانية في بلادنا لانتفض وأرغى وأزبد وقذفك بكل التهم التي تخرجك من الملة، وهنا تصبح المفارقة عجيبة جداً، فكيف يقف إلى صف دولة علمانية ويصفق لها وينجذب إليها وجدانياً وعقلانياً، بينما لا يقابل بلده بالحماسة ذاتها والولاء وهي التي تطبق الشريعة الإسلامية، وهذا يكشف لنا جلياً بأن اللعبة التي كان يخطط لها الإخوان المسلمون ولا يزالون لا علاقة لها بالدين، بل بالاستيلاء على كراسي الحكم وتغيير منظومة القيم والمثل وفق ما تنطبع به عقولهم، التي لن توصلهم بهكذا تفكير إلا إلى أخطاء فادحة وصراعات لا تنتهي. وقانا الله شرورهم.