دعوة » مواقف

السلفية والقوس الواحدة

في 2017/10/16

محمد السعيدي- الوطن السعودية-

«رموه عن قوس واحدة»، هذا التعبير العربي مازال يستجلبه الكتاب والأدباء والخطباء حين يتحدثون عمن اجتمع على عداوته خصوم متفرقون، ولعل المنهج السلفي هو أنسب من يمكن وصف علاقته بمن حوله اليوم بأنهم رموه عن قوس واحدة، فكل المحيط الفكري والسياسي يجتمع اليوم على عداوة السلفية، وإرادة استئصالها ومحوها من ظهر البسيطة، مع اختلاف مفاهيمهم ومشاريعهم.

فمراكز البحث الأميركية والأوروبية، والبرامج السياسية لدولهم، وحاخامات اليهود وآباء النصارى، والليبراليون والتنويريون والصوفيون والأشاعرة والشيعة والإباضية والخوارج والإخوان، والسياسيون والإعلاميون، الجميع يقصف السلفية من جهته، والجميع على تباينهم يخططون للقضاء عليها.

كنت أقرأ البارحة حواراً في مجلة هسبرس المغربية الإلكترونية مع مستشرق هولندي، ومما قاله: إن السلفية هي سبب الشرور في العالم، وهذا الرجل كان نصرانيا متشدداً ثم أصبح لا دينياً، وقبل ذلك قرأت في مجلة العمق المغربي الإلكترونية للعالم المغربي ذي التوجه الإخواني كلاما قريباً من هذا، ليس في حق المنهج السلفي وحده، بل في الدولة القائمة به وعلمائها وشعبها.

وقول هذين الرجلين مثال على اتحاد الموقف من السلفية مع تباين الأديان والتوجهات.

فما هو السر في أن يتناسى كل هؤلاء الفرقاء خصوماتهم ويتوجهوا نحو السلفية؟

هناك لهذا السؤال جواب إجمالي يصلح لكل هذه الملل والنحل مجتمعة، وأجوبة تفصيلية تختص بأفراد هذه الطوائف كل على حدة.

فالجواب الإجمالي هو: أن السلفية تُعَبِّر اليوم وحدها عن الثبات الإسلامي في مواجهة المُغَيِّرات والمُتَغَيِّرات، فالإسلام الصحيح كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتغير من أجل محيطه وظروف عصره، بل مهمته أن يُغَيِّر هذا المحيط وفق أصوله وأركانه وحدود الله تعالى من الأمر والنهي الكامنة فيه ونظامه الأُسْرِي والمجتمعي والسياسي والاقتصادي، فالإسلام يُغَيِّر ولا يتغير، وقد بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم في بيئة مخالفة لما جاء به في كل شيء، عباداتها وعاداتها وأنظمتها الحياتية كلِّها ونظرتها للكون والحاضر والمستقبل، وكان قادة هذا الواقع يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجاريهم، وكانوا مستعدين للقبول منه إذا قبل منهم، وموافقين على مُضِيِّه في دعوته ما دامت هذه الدعوة مستعدة لأن تتنازل عن شيء ولو قليلا من سماتها كي تبقى بينهم، وأن يكون لهم صلاحية تشكيل جانب منها كما يريدون هم، أو كما لا يؤذي أنظارهم وأسماعهم.

لكن الله تعالى أبى على رسوله ذلك، وأخبره أن هؤلاء لديهم الاستعداد التام للتنازل بشرط أن يكون هناك تنازل من طَرَفِك أيضا، لكن أي تنازل منك هو فتنة وضلال ولو كان شيئاً يسيراً ﴿فَلا تُطِعِ المُكَذِّبينَ وَدّوا لَو تُدهِنُ فَيُدهِنونَ﴾ [القلم: 8-9] قال ابن عباس في معناها: «ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك»، وقال سبحانه: ﴿وَإِن كادوا لَيَفتِنونَكَ عَنِ الَّذي أَوحَينا إِلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينا غَيرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذوكَ خَليلًا وَلَولا أَن ثَبَّتناكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَليلًا إِذًا لَأَذَقناكَ ضِعفَ الحَياةِ وَضِعفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينا نَصيرًا﴾ [الإسراء: 73-75]، فكان الركون ولو شيئاً قليلاً إلى مطالب هؤلاء مدعاة لوعيد الله تعالى أن يذيقه ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الآخرة لو فعل، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل، ولذلك كان النبي بعد هذه الآية يقول في دعائه: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين).

وقال تعالى: ﴿ وَاحذَرهُم أَن يَفتِنوكَ عَن بَعضِ ما أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيكَ﴾ [المائدة: 49]، أي احذر هؤلاء اليهود أن يصدوك عن شيء ولو يسيرا مما أوحينا إليك، وفي سبب نزول الآية: أن هذا الحكم الذي أرادوا منه الرجوع عنه في حقهم هو الرجم، بألا يرجم من جاؤوا محتكمين إليه في حقهم، وهي قضية شديدة الجزئية، وبالتأكيد فهي لن تؤثر على المجتمع الإسلامي، لأنه حكم جنائي فردي في مجتمع يهودي ضيق، ومع ذلك أبى الله تعالى هذا التنازل.

هكذا يفهم السلفيون الإسلام دينا يبني الفرد والمجتمع بناء خاصاً لا يد لأحد في تغييره سوى المسلم نفسه بناء على ما عنده من الوحي المنزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونهج أصحابه في فهم ما دعاهم إليه ونهاهم عنه.

وكل ما يبنيه المجتمع المسلم من عادات وثقافات وحضارات فإن هذا النص الشرعي حَكَم عليها وليست حاكمة عليه. والإسلام بذلك يؤصل للأقلية المسلمة في المحيط المخالف لها: أن يبقى تأثرها بمحيطها المختلف معها ديناً وثقافة في الحدود التي لا تختلف مع النص إلا للضرورة التي تُقَدَّر بِقَدَرِها، ما لم تكن الضرورة ادِّعاء تخفي حقيقته ميلاً للإثم ﴿فَمَنِ اضطُرَّ في مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجانِفٍ لِإِثمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [المائدة: 3] أو يكون الاضطرار دعوى غير صحيحة، وإنما الصحيح هو رغبة هذا الإنسان في التجاوز والطغيان فيلبس تين الخصلتين زوراً ثياب الضرورة: ﴿فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [النحل: 115].

فمراد الإسلام من أبنائه ليس أن يكونوا تابعين للعصر متحركين على وفقه، بل أن يكون العصر بكل مكوناته تابعا للمسلم متغيراً وفق إرادته.

هذا الفهم للإسلام الذي يختص به المنهج السلفي، يقف في وجه العولمة والفرنسة وما شاكلها من مشاريع تصدير ثقافات الأمم الغالبة وأطر الأمم والشعوب عليها، فالسلفية لا تقدم أي فرصة لتلك المشاريع بالنجاح في مجتمعاتها، ولنقل إن مشاريع العولمة هي المشابه للسلفية في الطرف المقابل، فهي فكر مبني على أن تغيير الشعوب ودمجهم في قِيَم الأمة الغالبة هو الضامن الأكبر لبقاء الغلبة لهذه الأمة.

وحين كان المنهج السلفي هو قائد زمام الحضارة الإنسانية في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية تم اعتماد هذا المنهج الذي يؤمن بمحورية الإسلام وثقافته كعامل ضروري من عوامل بقاء القوة والوحدة، وكان تعريب الدواوين الذي قامت به الدولة الأموية أحد أمثلة مظاهر إيمانها بهذا العامل، وكان الفرس لسابقتهم في بناء الدول والحضارات هم الأمة الوحيدة من بين رعايا الدولة الإسلامية التي عارض قوميوها مشروع تعريب الدواوين لعلمهم بأن نجاح مشروع محورية الإسلام ولغته وقِيَمه يعني بقاء الدولة الإسلامية وقوتها ومنعتها مهما تغيرت أنظمتها السياسية. ولذلك كان القوميون الفرس هم العامل الأقوى في الثورة على بني أمية، وكان تعزيز القومية الفارسية هو أعلى ثمن قبضوه من العباسيين على موقفهم. ولا يوجد منهج فكري سواء أكان منظروه تابعي الديانة اليهودية أم النصرانية أم الإسلام يقف من محورية الدين بكل تفاصيله وكل ما يحيط به كما يقف المنهج السلفي. ومن الطبيعي نتيجة لما سبق أن يقف الفكر الليبرالي أو التنويري [زعماً] من السلفية موقفاً مخاصماً، فهذان المنهجان من جسور العولمة التي نجحت في مسخ ثقافة الأمة وتلويثها بالقيم الغربية بين كل الثقافات والشعوب، وأسهمت لصالح الغرب المنتصر في طمس ثقافات الشعوب وغلبة القيم الغربية على الجميع إلى حد كبير، وضعف هذين المنهجين طوال ثمانين عاماً مضت في السعودية هو ما أفشل مشروع العولمة في مسخ ثقافتنا وهويتنا العربية الإسلامية في بلادنا المملكة العربية السعودية، وأي نجاح سيحققه الليبراليون والتنويريون على حساب ثقافتنا وقيمنا وخصوصيتنا سيكون نجاحاً لمشروع العولمة والتذويب الثقافي بدرجة من الدرجات.

أما التوجهات الإسلامية المتدينة مما سوى التوجه السلفي، فإن المنهج السلفي يحمل في طياته ممانعة علمية مؤصلة بالنص الشرعي ضدها، بينما لا تملك هي ضده أي قدرة نصية على مواجهته، فهي من الناحية العلمية شديدة الضعف أمامه، لذلك تستعيض عن ذلك بالتحالف على عداوته والاستعانة بكل الوسائل الممكنة لتشويهه لكي يكون هذا التشويه حاجزاً بديلاً عن الحصانة العلمية النصية.

ما تقدم هو الجواب الإجمالي عن تساؤل هذا المقال، أما الجواب التفصيلي، فيمكن تدبره في موقف كل فرقة ونحلة من السلفية، وموقف السلفية منها كلٌ منها على حدة.