يوسف حسني - الخليج أونلاين-
قبل نحو خمسة شهور، وضع الرئيسان الأمريكي والمصري يدهما إلى جانب يد العاهل السعودي فوق مجسّم للكرة الأرضية، ليعلنوا جميعاً، من الرياض، إطلاق المركز العالمي لنشر السلام "اعتدال"، في مشهد بدا أقرب للأفلام الأجنبية منه إلى الواقع، ما أثار حفيظة كثيرين في وقته.
وبعد خمسة شهور من إطلاقه، يمكن القول إن المركز العالمي الذي قيل إنه سيعمل على منع نشر الفكر المتطرّف وتعزيز السلام العالمي، ليس إلا مدوّنة على شبكة الإنترنت تتحدّث عن سياسات وأهداف وتحركات ليست ملموسة على أرض الواقع، حتى هذه اللحظة على الأقل، وذلك بحسب ما لمسه مراقبون من يوم تأسيسه.
المركز الذي قيل إنه سيكون منبراً لنشر التسامح والفكر المعتدل، وسيفاً مسلطاً على رقبة المتطرّفين، تم تدشينه خلال زيارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للسعودية، وهي الزيارة التي وصفتها الرياض في وقتها بـ "التاريخية".
كما أنه استخدم جيوشاً إلكترونية لتمرير أفكاره، وشنّ الهجمات والحروب ضد الدول التي تعاديها السعودية، أو تلك التي لا تحمل فكر المملكة وتوجهاتها، الأمر الذي يراه مراقبون بمنزلة "تطرّف وإلغاء للآخر، وهو ما يتنافى مع مسمّاه".
- نتائج بعيدة عن التطرف
ومنذ إطلاق المركز، شهدت المملكة اعتقال دعاة عُرفوا دائماً بالوسطية، لكن السلطات اتهمتهم بتبنّي أفكار متطرّفة والترويج لها، فضلاً عن أن الرقابة على مواقع التواصل باتت أكثر قوة عما كانت عليه قبل تدشين المركز، الذي سبق قرار محاصرة دولة قطر بأسبوعين تقريباً، الأمر الذي يثير أسئلة حول طبيعة أعمال المراقبة التي يمارسها المركز، ومن يراقبهم، والأهداف المرجوّة من هذه المراقبة.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن الأزمة الخليجية كانت بسبب "إرهاب إلكتروني"؛ تمثّل باختراق موقع وكالة الأنباء القطرية ونشر تصريح ملفّق لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
الممارسات التي أعقبت تدشين المركز هي الأخرى تجعل تعريف "الفكر المتطرّف" الذي يسعى لمحاربته محلّ خلاف؛ إذ يبدو أن مؤسسي اعتدال يرون في كل مخالف لرأيهم متطرّفاً، ويعتبرون كل صاحب فكر غير فكرهم إرهابياً تجب محاربته. أضف إلى ذلك الخطوات المفاجئة التي اتّخذتها المملكة في اتجاه "الإصلاح"، والتي شملت ضمن ما شملت الهجوم على الأسس الفكرية التي قامت عليها المملكة بالأساس، والتي وصفها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الشهر الماضي، بـ "المتطرفة".
ومن بين استراتيجيات عمل المركز أيضاً اتخاذ إجراءات استباقية وتفاعلية لحجب ومنع وإغلاق "منافذ الفكر المتطرّف" بمختلف أشكالها، وتعطيل مصادر تغذيتها الرقمية، وهي استراتيجية تبدو جليّة في حجب الحكومة المصرية مئات المواقع الإخبارية التي تتبنّى رواية معارضة لرواية الرئيس عبد الفتاح السيسي (الذي شارك في تدشين المركز)، بوصفها "مواقع إرهابية".
كما أن السعودية بوصفها قائدة لمحور محاصرة قطر، وضعت إغلاق قناة الجزيرة الإخبارية على رأس مطالبها لرفع الحصار، وهي القناة التي ساعدت العرب كثيراً في معرفة حقيقة الأحداث التي تدور حولهم، كما تقول الصحف الأجنبية.
في يوليو الماضي، أكدت السعودية على لسان ممثل وفدها في قمة العشرين بألمانيا، إبراهيم العساف، وجوب منع استخدام مواقع التواصل في التجنيد والدعاية، معتبرةً أن إيجاد فرص عمل أهم وسيلة لإبعاد الشباب عن التطرّف.
وقال العساف إن المملكة أطلقت مركز "اعتدال" بمشاركة الرئيس الأمريكي وعدد من رؤساء العالم وقادته؛ لتعزيز الاعتدال ومحاربة الفكر المتطرف، مضيفاً: "عملنا على حزمة من الإجراءات الرقابية الصارمة على العمليات والتحويلات المالية"، إلا أن قيم الاعتدال لم يلمسها الشباب السعودي حتى اليوم.
- واقع مختلف
وبعد 3 أشهر من حديث العساف، أظهرت بيانات رسمية أن معدل البطالة بين السعوديين ارتفع بنهاية الربع الثاني من 2017 إلى 12.8%، مقارنة بـ 12.7% في الفترة نفسها من العام الماضي، وهو صعود صاحبته سياسة تقشّف انتهجتها الحكومة؛ نتيجة لتراجع أسعار النفط، الذي يمثّل المصدر الرئيس للدخل بالبلاد.
وبنهاية أكتوبر الماضي، أصدر مركز سوفيان الأمريكي تقريراً قال فيه إن السعودية تحتل المرتبة الثانية بعد روسيا من حيث التحاق مواطنيها بتنظيم الدولة، وهو التنظيم الأكثر إرهاباً في العالم، ووفقاً للتقرير فإن 3244 سعودياً يقاتلون في صفوف التنظيم، وهي أرقام حكومية من المرجّح أن تكون أقل من الأرقام الفعلية.
وبينما تتهم السعودية جارتها قطر بدعم الإرهاب وتمويله، فإن التقرير لم يذكر أن قطرياً واحداً يقاتل في صفوف "داعش"، فضلاً عن تأكيدات واشنطن وباريس وبرلين، وغيرها من الدول الكبرى، للدور القطري الكبير في مواجهة خطر التنظيم.
الأمين العام لـ "اعتدال"، ناصر البقمي، وبعد أيام من تدشين المركز، وصف جماعة الإخوان المسلمين بأنها "حاضنة الجماعات الإرهابية كافة"، وكتب على حسابه الرسمي على "تويتر": "الإخوان وراء كل تطرّف، وهم المظلّة الحاضنة لكل الجماعات التكفيرية". وهو تصريح اعتبره البعض دليلاً على الجماعات التي أُسّس المركز لمواجهتها، بعيداً عن الجماعات المسلحة التي وصل صدى انتحارييها إلى أرجاء العالم.
تاريخيًا: الاخوان المسلمون وراء كل تطرف وهم المظلة الحاضنة لكل الجماعات التكفيرية؛ فكأنها الجناح السياسي والجماعات المسلحة الجناح العسكري.
— د. ناصر البقمي (@albiqami) May 22, 2017
وتصف دول ومنظمات دولية جماعة الإخوان بأنها الأكثر بعداً عن العنف بين الجماعات الإسلامية كلها، كما أنه لم يثبت تورّطها بأي عمل إرهابي، فضلاً عن أن دولاً مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، لم تصنّفها كـ "جماعة إرهابية"، رغم الضغوط الكبيرة والمطالبات الكثيرة بذلك.
أمر آخر لافت للنظر، هو أن البقمي، ومن خلال صفحته على تويتر، يتبنّى خطاباً يرى الكثيرون فيه أنه "يدعو للعنصرية ويرسّخ القبلية وتمزيق الأواصر"، على عكس الأهداف المعنلة للمركز الذي يقوده.
هذا ملكنا.. من يباهينا بملك.#الملك_سلمان_في_روسيا pic.twitter.com/wCkmJFfFV4
— د. ناصر البقمي (@albiqami) October 6, 2017
الكاتب السعودي حسن العطار، قال إن إنشاء مثل هذا المركز "يعتبر خطوة جيدة في مكافحة ومحاربة الفكر المتطرّف"، مضيفاً: "لكن بجانب ذلك يجب معرفة الأسباب التي تدعو إلى اعتناق مثل هذا الفكر ومعالجتها".
وفي مقال له على صحيفة "إيلاف" السعودية، في يونيو الماضي، قال: "إن محاربة الفكر المتطرّف دون أن يُستبدل به فكرٌ إنسانيٌّ مستنيرٌ يواجه المشكلات المطروحة ويقدّم حلولاً لها في سياق عقلاني مقبول، سوف يترك الأساس الذي نشأ عنه هذا الفكر المتطرّف، ويسمح بإعادة إنتاجه بطريقة أخرى قد تقود إلى مزيد من التطرّف".
وتابع العطار: "الفكر الإنساني البديل الذي ندعو له لا بد أن يقدّم تصوّراً أفضل حول الدولة وطبيعتها وعلاقتها بمواطنيها، وحول الحقوق والحريات الشخصية، وحول الاقتصاد وكيفية معالجة قضايا التنمية، وإعادة توزيع الثروة، والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد والمحسوبية".
الفكر البديل يتطلّب كذلك وضع استراتيجية تعليمية وإعلامية قادرة على المواجهة، كما أن إصلاح التعليم يتطلّب تغيير مناهج التعليم الحالية في المجتمعات العربية والإسلامية التي تعتمد على التلقين والحفظ، وأن تستبدل بها مناهج تعليمية جديدة قادرة على إنتاج عقول تفكّر وتنتقد، وتبحث عن الأسباب وتحلل العلاقات بين الظواهر وتجترح الحلول، وفق العطار.
أما في مجال الإعلام، فيقول العطار: "المجتمعات العربية والإسلامية بحاجة إلى الأدوات التي تخفّف من أسباب الاحتقان التي تعاني منها المجتمعات؛ ألا وهي وسائل الإعلام التي تسمح بتعدّد الآراء، وتتبنّى الحوار المتواصل مع مختلف أطراف المجتمع، بهدف وقايته من الانزلاق في مطبّ الاستفراد بالرأي الواحد وإقصاء أطراف المجتمع الأخرى".
ويؤكد الكاتب السعودي أن "حرية التعبير والتعددية لا بد أن تكون جزءاً مكمّلاً من تطوّرات المجتمعات، وهذا لن يتحقّق إلا من خلال وجود الإعلام الحرّ والمستقل، الذي ينقل الرأي والرأي الآخر بسلاسة".
وختم العطار حديثه بالقول: "أتمنّى على القائمين على المركز أن يطلبوا من بعض الحكومات العربية والإسلامية سحب الكتب الدينية الصفراء التي تكفّر وتحثّ على قتل المخالف في المذهب والعقيدة من كل المؤسسات التعليمية في بلدانهم، وكذلك فتاوى التكفير والتفسيق وإحراقها جميعاً، ومعاقبة من يحاول إعادة طباعتها وترويجها".
- أدوات وأهداف غابت عن التنفيذ
ومن المثير للانتباه أن موقع المركز على الإنترنت ينشر للعديد من القيم الإيجابية التي يمكن بتطبيقها الصحيح تحقيق نتائج ملموسة في مكافحة التطرّف، إلا أن الملاحظ استغلالها كأداة استخبارية لتكميم الأفواه وفق رغبات العاملين فيه.
ويقول إن من بين المميزات الكثيرة التي يملكها "اعتدال" أن لديه "نخبة مميزة في مكافحة التطرّف الفكري وأنشطته على ساحات مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام بوجه عام"، كما أن لديه "برمجيات مبتكرة لرصد وتصنيف وتحليل أي محتوى متطرّف في غضون 6 ثوانٍ من ظهوره على شبكة الإنترنت، وبمستوى غير مسبوق عالمياً، ما يتيح آفاقاً جديدة في مجال مكافحة الأنشطة المتطرّفة في المجال الرقمي".
ويؤكد المركز أيضاً أن لديه "القدرة على تحليل كافة اللغات واللهجات الشائع استخدامها في طروحات الفكر المتطرّف، ويجري حالياً تطوير نظم ذكاء اصطناعية متقدمة لتحديد المواقع الجغرافية التي تمثل بؤراً وحاضنات للفكر المتطرّف، والقيام بأنشطة الاستقطاب والتجنيد". إضافة إلى "امتلاكه تعاوناً دولياً، وفق رؤية مشتركة، لمحاربة جذور التطرّف، ونشر قيم التسامح والاعتدال، وإثبات قدرتنا كقيادات دولية على حفظ السلام العالمي".