محمد السعيدي - الوطن السعودية-
الحقيقة أن توحيد الألوهية لم يفشل في توحيد الأمة، لكن من اتبعوا أهواءهم من قادة الأمة الدينيين بأشخاصهم أو مؤسساتهم لم يجعلوه خياراً فعملوا وما زالوا يعملون على صرف الأمة عنه
نظرة عابرة إلى التاريخ القريب، وليس البعيد، كفيلة أن تثبت لك: أن هذا العصر الذي نعيشه مخْتلِف في كل شيء عما قبله من العصور، واختلفت تبعاً لاختلافه الكثير من حاجات الناس المادية والمعنوية.
والسؤال الفكري في مثل هذه الحال: هل الإنسان فيما يختص بقناعاته الإيمانية المتعلقة بالخالق عز وجل وعالم الغيب والرسالات، أو المتعلقة برؤيته لنظام الكون والحياة العامة أو الحياة الخاصة، هل هو في كل ذلك في حاجة لتغيير مفاهيمه أو تطويرها وتعديلها إلى ما يتناسب مع هذا التغير الكبير، أم أنه أحوج إلى مفهوم ثابت يسعى من خلاله إلى تغيير محيطه لِتتسِع من ذلك رقعة وجوده، فتكون له القوة المعنوية التي بها يستطيع التأثير على سائر المجتمعات والحضارات، ويستطيع بها ضبط عملية التأثر، بحيث لا تعود على كيانه بالمسخ والإبطال. الجواب النظري: أن كل مجتمع يسعى للبقاء في ميدان الحضارة الإنسانية سيختار الإجابة الثانية، والمقصود بالحضارة هنا: ما هو أعم وأعمق من التقنية والصناعة والعمران، بل ما يشمل المعتقدات والأخلاق والآداب والثقافات، لأن الرؤية الثابتة إذا اتسعت رقعة وجودها، وقوي الإصرار المجتمعي والثقافي في الالتزام بها، فإن هذه الحضارة ستمتلك مهارة تلقائية في الممانعة تجاه ما يضر بها من الثقافات المغايرة، كما ستكتسب القدرة على التأثير في تلك الثقافات. وهذا الجواب سيكون نظرياً لأن الحضارة التي تملك القدرة على نخل الدخيل وتمييزه والتأثير فيه لا بد أن تمتلك مقومات تجعلها حرِية بذلك، ومن هذه المقومات موافقة الفِطر والعقول، واتساق الأصول والتعاليم، وتلبية حاجات القلوب والأبدان، والاشتمال في جميع التفاصيل على الحِكم الظاهرة أو التعليلات البيِنة، وتضمنها الأصول والباعثة إلى عمارة الكون، واستثمار مقدراته، وتسخير علوم الحياة لخدمة الإنسان.
وهذه المقومات هي الحاجات الأصيلة للإنسان في كل زمان ومكان، فلا تعدو أطروحات جميع الفلاسفة ودعاة الإصلاح سوى أنها محاولات لتحصيلها، لكنك لو جمعت حضاراتِ الأرض قاطبة وأكثر فلسفاتها رواجاً ثم فليتها فلياً فلن تجد في أصولها الماورائية أو التشريعية ما يتضمن هذه المقومات، أقول ذلك قول قارئ فاحص لا متخرّص متحمس.
ماخلا الإسلام في طراوته ونقائه ووضاءته ويسره ووضوحه كما تركنا عليه نبي الهدى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن تعبث العقول في محاولة تأويل نصوصه أو تتظاهر الأهواء على الابتداع فيه والانتحال إلى تعاليمه.
فالإسلام بهذه الصفة، وهو ما يعرف البوم بمنهج السلف، قادر وحده على النجاح في خوض تلك التجربة، وحل ما يعترضه فيها من معضلات إذا ترِك وحده.
وهذه المقوِمات التي لم يزل الإنسان منذ أقدم العصور يفتش عنها في كل نِحلة ودين فلا يجدها، أنعم الله بها حينا من الدهر على أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى اجتالت الشياطين كثيراً منهم، فاستبدلوا الخرافة بالعقل الصريح، والعقل الوهمي بالنص القطعي، والاتباع بالابتداع، فضاعت كثير من معالم الدين المحمدي إلا عند من صبروا على منهج السلف وعلى دول المسلمين المتعاقبة وهي على مر التاريخ تتناهش أهله، حيث كانت مصالحها في ضده وصده.
فلما أحيا الله هذا المنهج الشريف في هذا العصر حياة طيبة وتلقفته قلوب ملايين الناس المحتاجة إلى كل مقوِماته، أدرك شياطين الإنس على اختلاف أصقاعهم أن حياة حضارة الإسلام عائدة به إن بقيت جذوته ولا محالة، وأن آثاره الأخلاقية والفكرية ممتدة حتى في غير أراضيه ولا ريب، فشدوا عليه الإغارة ركْباناً ووحدانا.
وقد ينازِع أحدهم في كون منهج السلف محصِلاً لهذه الحاجات، والجواب التفصيلي المستوعِب ليس محله المقال المحدود، فأقتصر على ضرب المثال بتوحيد الألوهية، أي إفراد الله عز وجل بالعبادة، فلاشك أنه حاجة فطرية مركوزة في النفوس، وكل ما لدى العالم اليوم من ديانات وأهواء تصْرِف الناس عن تلبية هذه الحاجة الفطرية كما قال الله تعالى(وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)، فأخبرتِ الآيتان أن الافتراق إنما كان بعد البينة وإقامة الحجة، وأن هذه البينة إنما كانت بالعبادة المخلصة لله تعالى، ولو قلنا إن معظم المشكلات التي تضاربت فيها أقوال الفلاسفة، والأمراض الفكرية والعقدية التي منِيت بها الأمم، عائدة كلها إلى انصرافهم أو تضييعهم لتوحيد العبادة، وأن من وقع عليه منهم لم يستطع العثور على المسلك الذي يستطيع به تحصيله، لما كنا مخطئين، فتضييع توحيد الألوهية هو سبب ما يحدث للإنسان من الشك والشعور بالضياع اللذين ينتجان عن فقدان المعرفة بالغاية من هذه الحياة.
والمناهج الإسلامية الأخرى كالمنهج الكلامي المتمثل في الاعتزال ومذهب الأشاعرة والماتوريدية أو المناهج الخرافية كالرفض والتصوف لا تقيم لتوحيد الألوهية وزنا، فهم يعرِفون الإله بالخالق أو المخترع، ولا يهتمون في كتب العقائد عندهم بصرف العبادة لله تعالى، ووجوب إخلاصه عز وجل بها، ولذلك سادت الخرافة وصرف العبادات لغير الله في كل بقعة من بلاد المسلمين ساد فيها علم الكلام رغم رفع علمائه عقائرهم بالاعتزاز بالعقلانية، حتى صارت الاستغاثة وبذل القربات والتطور وطلب المدد والشفاء والغنى من الأموات هو الأصل المعبر عن الدين الإسلامي، وتبع ذلك استئثار القلوب والعقول لشيوخ الطرق ومزعومي الولاية،حتى إنك تجد في كتب التاريخ والتراجم أخباراً عجيبة عن كون الشخص الفلاني يعتقد في الشيخ الفلاني، إلى أن أضحت الخرافة هي المحرك الأكبر لحياة المجتمعات المسلمة، وهو أمر أوقعها في العديد من المصائب كالاحتلال الأجنبي الذي طبق جميع تلك البلاد بلا استثناء، ولم يلق مقاومة تذكر بسبب غلبة الخرافة على عقول العامة، وتحكم العقل الجبري في عقول العلماء، ثم الصدمة الحضارية التي هي بلا ريب نتاج تخلف الأمة الذي لسيادة الخرافة وغياب توحيد الألوهية عن العقل المسلم دور فيه.
فلما أعاد الله المنهج السلفي عوداً أحمد مع انطلاق الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة وجد الناس في هذه العقيدة التي تعتني بتوحيد العبادة عودة إلى خطاب القرآن، ومنقذاً من الانحراف الديني، وحصناً ضد التوجه الخرافي، وفوق ذلك ملبياً لحاجات نفوسهم في تعظيم الله وإفراده بالدعاء والاستغفار والنذر والنحر. وهذا التعظيم لتوحيد الألوهية مع أنه مصدر الجاذبية الأكبر للشعوب الإسلامية والمسلمين الجدد في العصر الحديث إلا أن خصوم السلفية اشتدوا عليها من هذا الجانب، فلا تبرح تقرأ سخريتهم من عناية السلفيين بنقد التبرك بالقبور والأضرحة، ويرون ذلك قصوراً في نظرتهم إلى الدين ووحدة المسلمين، وكان انتشار نقد السلفية من هذا الجانب عاملا من عوامل سرعة انتشارها، حيث كان لفتا إلى أعظم مواطن قوتها وجاذبيتها في آن معاً، بل لفتاً إلى أعظم عامل يمكن أن تلتقي عليه الأمة، وهو إخلاص التوحيد لله بعد أن فرقها أدعياء الولاية إلى طرائق شتى. والحقيقة أن توحيد الألوهية لم يفشل في توحيد الأمة، لكن من اتبعوا أهواءهم من قادة الأمة الدينيين بأشخاصهم أو مؤسساتهم لم يجعلوه خياراً فعملوا ومازالوا يعملون على صرف الأمة عنه، فإن استجابت الجماهير لهم فقد فقدت قدرتها الأصيلة على تتبع احتياجاتها، وهذا أمر ليس بجديد على الأمم حين تغلب عليها شقوتها (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون﴾.