أحمد الرضيمان- الوطن السعودية-
المُزايَدة: هي المُغَالاَة وإظهار الإنسان أنه أفضل من غيره، بل ولمز غيره ممن هو خيرٌ منه بأنه لم يقم بالواجب، هذه الصفة قاتلة، تدل على أن المتصف بها لديه جهل في الدين، ونقص في العقل، ولها آثار سلبية، على الفرد والمجتمع، وهذا وإن كان ملاحظا عند بعض المتحدثين من محبي الشهرة، وطيران السمعة في الآفاق، من طلاب الدنيا.
إلا أن وجود ذلك عند من يدَّعي بفعله ذلك: الدين، والتقرب إلى الله، أشد خطورة، لكونه جناية على الدين، ومؤدياً لاستباحة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وغالبا هذه الصفة تكون عند الجفاة من الخوارج ومن سلك سبيلهم.
وتأمل معي أخي القارئ الكريم هذا الحديث الشريف، أنقله بنصه كما ورد، فقد روى البخاري (3610) ومسلم (1064) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل)، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: (دعه فإِن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدينِ كما يمرق السهم من الرمية...) أرأيت أخي القارئ الكريم هذه المزايدة، يزايد على عدالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يرى أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يعدل، فيقول بكل حمق وجفاء وإعجاب بالنفس: (اعدل)، وفي بعض الروايات: (والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله).
هذا هو نفس الخوارج وكِبْرهم وتيههم وجهلهم، وإن شئت مثالا آخر -وما أكثر الأمثلة- فتأمل مزايدة الخوارج واعتراضهم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عندما قَبِل تحكيم بعض الصحابة رضي الله عنهم، وإنهاء القتال، فمع أنه رضي الله عنه من أعلم الناس بالكتاب والسنة، وأكثرهم غَيرة على دين الله، إلا أن أولئك الخوارج المزايدين أُعجبوا بعلمهم وتدينهم، متوهمين أنهم أعلم منه رضي الله عنه، فقالوا له: لماذا تُحكِّم الرجال في دين الله، أنت مخالف لقول الله تعالى: (إن الحكم إلا لله)، وقد تولى ابن عباس رضي الله عنهما بيان جهلهم، عندما قال لهم: إن الله صيَّر حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم؛ فقال: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم﴾ أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟
وقال لهم أيضا إن الله حكَّم الرجال في صلح الزوجين فقال تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها﴾ فجعل الله حكم الرجال سنة مأمونة.
والمقصود: أن المزايدين من أهل الغلو في الدين، معجبون بأنفسهم، يرون أنفسهم فقط هم الذين يحبون الدين، ويحمون حوزته، ويعملون بكتاب الله، ولهذا طبيعتهم في كل زمان ومكان: المنابذة والاعتراض والتجمهر والتهويل والتداعي والصخب والضجيج.
والراصد والمتابع: يرى أن لذي الخويصرة، ودعاة التحكيم، المنابذين لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، أن لهم في زماننا أتباعا، فها نحن نرى أشخاصا يقبعون بين ظهراني الكفار، ويقتاتون على ما يدفعه لهم أعداء الإسلام، يزايدون على غيرهم من الفضلاء، مدعين لأنفسهم أنهم دعاة عدالة وحرية ونزاهة وأمانة، مع أنهم بضد ذلك تماما، فأين الديانة والأمانة ممن يقتات على ما يدفعه له أعداء الإسلام، ليكون صوتا لهم في تدمير وطنه ومجتمعه؟ ولو لم يكون خائنا لبلده وأمنه واستقراره، ما أعطوه دولارا واحدا، وأين الحرية ممن هو عبد للهوى والشيطان وأعداء الإسلام الذين يسيرونه كما أرادوا، ولو لم يفعل لقطعوا عنه المؤونة والمأوى، وكيف يزايد ويدَّعي أنه يدافع عن المجتمع وحقوقه، وهو فاجر كذّاب؟ وعلامة كذبه وفجوره أنه يثير أعداء الإسلام على أمن مجتمعه واستقرارهم، وزوال حكم ولاتهم.
ومن المزايدة كذلك: ما رأيته من بعض الشباب في تعاملهم مع العلماء الراسخين، يأتي أحدهم وهو حديث عهد برضاعة، إلى عالم راسخ زاد عمره في العلم والدعوة على ثمانين عاما، فيواجهه بكل صفاقة: اتق الله يا شيخ لماذا تسكت، وهذا المنكر الذي يحدث هو في ذمتك، ألا تخشى الله، لماذا تداهنون في دين الله؟
هكذا يصرخ ويسيء الأدب، ويزايد على دين العالم وغَيرته، ثم ما يلبث إلا أن يكون مع الخوارج الغلاة، أو مع المنفلتين الشهوانيين، الذين لا همَّ لهم إلا مُناكفة الشريعة وأحكامها وحملتها، لكونه انتقل من أقصى اليمين، إلى أقصى الشمال، وتأمل ذلك تراه عيانا بيانا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.