الخليج اونلاين-
على مرّ العقود الثمانية الماضية من عمر المملكة العربية السعودية، كانت هيئة كبار العلماء بالمملكة مصدراً مستقلاً لإصدار الفتوى بعيداً عن هوى مؤسسة الحكم وبما يتوافق مع الشريعة الإسلامية، لكن هذا الحال تغيَّر رأساً على عقب خلال السنوات الثلاث الماضية.
فبعد صمتها عن إعادة فتح السينما، وترحيبها بقرار العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، بالسماح للمرأة بالقيادة، بعد أن كانت قد أشبعت الأمر بسلسلة فتاوى تؤكد تحريمها، تبرر اليوم قرار الحكومة السعودية زيادة الأسعار والتي أثارت جدلاً واسعاً، بأن "الله هو من يرفع الأسعار"، وتعدَّى الأمر سلسلة من الفتاوى التي تتعلق بحياة الناس الخاصة والتي كانت في السابق من المحرمات.
كما أن هيئة كبار العلماء أيدت ببيان لها، في نوفمبر الماضي، الاعتقالات التي طالت أمراء ووزراء ومسؤولين سابقين، وقالت إن محاربة الفساد لا تقل عن محاربة الإرهاب، وإن الحفاظ على الوطن يتطلب ذلك.
وقبل ذلك، تعدى الأمر الجانب الاجتماعي بدعم المواقف السياسية المتحولة للرياض، فعلى الرغم من تأكيدها وحدة الأمة ونبذ الخلافات على مر عقود، سارع المفتي العام للمملكة، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، بعد إعلان بلاده مقاطعة قطر وفرض حصار عليها، إلى تأييد الخطوة.
وأكد أن القرارات التي اتخذتها السعودية وعدد من الدول ضد قطر "أمور إجرائية، فيها مصلحة للمسلمين ومنفعة لمستقبل القطريين أنفسهم"، مضيفاً أن هذه القرارات "مبنيَّة على الحكمة والبصيرة، وفيها فائدة للجميع".
- اختلاط عائلي "مباح"
ولعل آخر هذه الفتاوى المجتمعية ما صدر عن عضو هيئة كبار العلماء، المستشار في الديوان الملكي السعودي، الشيخ عبد الله المطلق، الذي أفتى بجواز الاختلاط العائلي بجلوس الإخوة مع زوجاتهم جميعاً، مشيراً إلى أنه لا بأس من الحديث والضحك "لكن من دون الخلوة"، ووجَّه انتقادات لاذعة لمن يتشدد في ذلك.
وقال "المطلق" في ردٍّ على سؤال بهذا الشأن: إنه "لا بأس في السلام على زوجة الأخ بالكلام، والسؤال عن أحوالها، ويجوز أن يجلس الإخوة مع زوجاتهم جميعاً يتناولون الشاي والقهوة، مع التستّر والحشمة والحجاب، ويتحدثون ويضحكون جميعاً، لكن من دون الخلوة".
وانتقد الشيخ "المطلق"، في برنامج "فتاوى على السعودية"، الاثنين (5 مارس 2018)، ما سماه "التشدّد والتزمّت، أو التساهل والتسيّب"، في التعامل الأسري مع زوجات الإخوة، مشيراً إلى أن "كليهما يتساوى في الخطأ".
وتناول أيضاً حال الناس بين التشدّد والتساهل فيما يتعلّق بالعلاقات الأسرية مع زوجات الإخوة.
وقال "المطلق": "لدينا قسم متشدّد، حتى إن زوجة أخيه لا يريد أن يسلّم عليها بالكلام، ولا يجلس وإياها وإخوانه في مجلس واحد"، وأضاف: "في المقابل، هناك قسم متسيّب ومتساهل؛ يجلسون ويأكلون جميعاً ويصافح زوجة أخيه باليد، وكلاهما خطأ".
- "ربانية" في السياسة
أما الخطوة الحكومية الجديدة في الغلاء ورفع الأسعار، فاستخدمت توظيفاً جديداً للدين، في محاولة لإسباغ صفة "الربانية" على زيادة الأسعار بالسعودية. وبحسب مقطع فيديو مصور، فقد زعم الداعية خالد الفليج أن "الله هو الذي يرفع الأسعار، وهو الذي ينزلها سبحانه وتعالى"، مضيفاً: "نقول ذلك؛ لأن الله من أسمائه المسعّر، وهو الذي يسعّر، وإن الله هو الذي يرفع هذه القِيَم وهو الذي يخفضها".
الأمر لم يتوقف عند الفليج، فقد برر عضو هيئة كبار العلماء السعودية، الشيخ عبد الله المطلق، الضرائب التي أقرَّتها حكومة المملكة، باعتبارها "جائزة"، داعياً الدعاة وأئمة وخطباء المساجد لتبيان ذلك للناس.
وقال لإذاعة "نداء الإسلام": "لا بد من أن نردَّ على الجاهلين الذين لا يفرِّقون بين هذه الضرائب الجائزة والمكوس المحرَّمة، لقطع الطريق على الحاقدين والمتربصين الذين يسعون إلى زرع الفتنة والشقاق بين الدولة والمواطنين".
وطالب "المطلق"، المستشار في الديوان الملكي، "الدعاة وأئمة وخطباء المساجد بتبيان الوجه الشرعي فيما يتعلق بقرارات الدولة، ومنها تطبيق الضرائب التي أقرَّتها مقابل الخدمات التي تقدِّمها، وكأحد مصادر دخلها واقتصادها الوطني".
وأشار إلى أن "مثل هذه الأمور قد يتحدث فيها بعض الحاقدين لزرع البغضاء بين الدولة والمواطنين، أو بعض الجاهلين الذين لا يفرِّقون بين الضرائب هذه والمكوس التي ذمَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأضاف، بحسب ما نقلته صحيفة "سبق" المحلية: "الحكومة التي تنظم الأمر، وتوظف رجال الأمن والقضاة، وتنشئ الطرقات، وتنظم البلديات وأمور التجارة، وتفتح مستشفيات الصحة، وتعمل هذه الأعمال وتأخذ من الناس ما يُعينها على هذه الخدمات؛ فهي ليست مكوساً وليست أشياء محرَّمة متى ما استُعملت فيها الخدمات النافعة"، متسائلاً: "من أين تأتي الدول بالميزانية؟ الآن الدولة في حاجة".
جاءت تلك الفتاوى بعد أن كان رفع الأسعار وفرض ضرائب على السلع والخدمات قد أثارا موجة غضب في الشارع السعودي مؤخراً، وهو ما استدعى المملكة لاستنفار مسؤوليها ووسائل إعلامها لامتصاص غضب الشارع.
وبناء على رؤية التحول 2030، سمحت المملكة بأمور اجتماعية كانت محرمة منذ تأسيس المملكة، ومنها السماح بافتتاح دور السينما، وحفلات الغناء العلنية، والسماح للمرأة بقيادة السيارة، في حين استعانت بالمؤسسة الدينية لإصدار فتاوى جديدة تناقض مواقفها التقليدية، وتجيز هذه المحرمات الاجتماعية، تماشياً مع ما يوصف بمرحلة "الانفتاح".
- دوام الحال من المحال
فعلى مدى عقود، كانت المؤسسة الدينية في السعودية صاحبة الحق بتفسير الإسلام، مدعومة من العائلة الحاكمة، ومستفيدة من ثروات النفط الهائلة لتركيز سيطرة السعودية ونشر مذهبها بعموم العالم.
ويعود تحالف رجال الدين والعائلة المالكة إلى تأسيس الأسرة السعودية في القرن السابع عشر، ومنذ ذلك الحين حكمت العائلة بتوجيه من رجال الدين الذين منحوا حكم آل سعود الشرعية الدينية، واستمر التحالف من خلال تأسيس المملكة السعودية في عام 1932، حيث تشكلت الدولة السعودية بصيغتها الإسلامية الصارمة.
إلا أن الوضع بدأ يتغير بسرعة مع وصول ولي العهد، محمد بن سلمان، الذي يسعى لكبح جماح السلطة الدينية بالسعودية، في إطار حملة كبيرة يشنها من أجل ترسيخ قوته ونفوذه.
وأظهر بن سلمان، منذ بزوغ نجمه، لا مبالاة بقرارات المؤسسة الدينية التقليدية، وصدم بإجراءاتها؛ فبعد تقليصه صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف، أنشأ هيئة أخرى للترفيه سمحت بالموسيقى والعروض الغنائية والحفلات، كما سيتم السماح للنساء بالدخول إلى الملاعب، التي كانت محظورة عليهن.
وجرد الأمير الشاب الشرطة الدينية، أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من صلاحياتها، وأعلن بنفسه نيته العودة بالسعودية إلى "الإسلام الوسطي"، حسب ما سماه.
وأيد العديد من الشباب السعوديين إصلاحات بن سلمان؛ بحثاً عن حياة بعيدة عن الضوابط الصارمة التي كانت تفرضها هيئة الأمر بالمعروف؛ لكن هذا التحول الكبير -كما يرى سعوديون على وسائل التواصل الاجتماعي- سيكون تحدياً خطيراً في مجتمع محافظ اعتاد الالتزام الشديد بتعاليم الإسلام، وهو ما قد ينقلب عكسياً على السلطة.