مبارك الفقيه- خاص راصد الخليج-
كثير من القيود الدينية العاملة في المملكة السعودية ليست من عقيدة الإسلام، فالإسلام معقول وبسيط ولكن الناس يحاولون اختطافه.. هذه هي القاعدة التي أعلنها ولي العهد محمد بن سلمان بكل صراحة ووضوح وبلا مواربة أو تجميل للعبارات، وحكمت السياسة الجديدة التي انتهجها قبل أكثر من عامين، وبها استطاع إرغام رجال الدين المحليين على الإقرار بضرورة بدء السعودية مشوار الانفتاح وما يسمّى الإسلام المعتدل، بعيداً عن التشريعات الوهابية التي كانت تقبض على البلاد في قعر التخلّف والهمجية الفكرية والثقافية والتربوية.
الحديث عن علاقة ابن سلمان بالهيئات الدينية في السعودية لا يتصل فقط بالفترة التي وصل فيها الأمير الشاب إلى مرتبة الحكم، كولي ولي للعهد أولاً ومن ثم ولي للعهد، بعد تنحية الأمير نايف بن عبد العزيز، وكقابض على الأمور ومقاليد الحكم في المملكة، بل تعود إلى اللحظة التي تولّى فيها أبوه الملك سلمان سدة الحكم، حيث أصبح قادراً على أن يبدأ بتنفيذ رؤيته وإرساء التركيبة الجديدة للسعودية من داخل المنظومة الحاكمة، معتمداً على صلاحياته غير المحدودة التي منحه إياها والده، والتي تطال كل مفاصل الدولة والمؤسسات والهيئات.
الكتيبة الوهابية التحدي الأول لابن سلمان
وشكّلت الهيئة الدينية الوهابية التحدي الأول الذي عمل ابن سلمان برويّة على مهادنتها في بادئ الأمر، فهو يعلم ما لرجال الدين من نفوذ في البلاد، ولكنه ما إن استتبت له السيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية حتى باشر بإبراز أنيابه، فقام بحملات تنظيف داخلية في أروقة المؤسسات الحكومية وتلك التي تتصل بالبلاط الملكي، بعضها صامت وبعضها معلن، ولكنها في المجمل معروفة ومرصودة من قبل الكتيبة الدينية الوهابية، وفتح ابن سلمان نقاشات حادة مباشرة مع رجال الدين الذين كان يستدعيهم فرادى تارة أو في مجموعات صغيرة، بالتوازي مع إصدار قرارات "انفتاحية" متواضعة لجس النبض وردود الفعل.
ترهيب وترغيب
ألحق ابن سلمان هذه الإجراءات الأولى بحملات اعتقال استهدفت رموزاً في الأسرة الحاكمة وأخرى اقتصادية - مالية لم يكن يتوقع أحد أن يطالها ولو بالكلام أو الإشارة، ومعظم هذه الرموز ارتبطت بشكل وبآخر بالهيئات الدينية السعودية، ولكنه عمل على استيعاب ردود الفعل من خلال تقريب بعض رجال الدين وترغيبه وعزل البعض الآخر وترهيبه، وساهم ذلك في خلق حالة انفصام في هذه الهيئات، ما مهّد أمامه الطريق لاتخاذ قرارات "انفتاحية" جديدة أعلى مستوى من السابقة، فبدأ باعتقال دعاة المساجد من جهة وفي المقابل أطلق العنان أمام مسيرة الترفيه والتسلية واستعادة حقوق المرأة المسلوبة.
حلّ جيش الوهابي
كل ذلك جرى والهيئة الدينية الوهابية لم تحرك ساكناً إلا من اعتراض هنا وانتقاد هناك، فكان أمامها الخيار بين المواجهة مع ما يعني ذلك من احتمال تعرّض رموزها للقتل والاعتقال، أو المهادنة والسير في سياسة ابن سلمان مقابل تحصيل وعد ملكي بعدم التعرض لهم وإبقائهم في مناصبهم والتمتّع بالامتيازات الخاصة الممنوحة لهم ضمن حدود معيّنة تبقى في إطار الممارسات الدينية فقط، ومن هنا جاء القرار الملكي بحلّ الجيش الوهابي (المطاوعة) وهو يضم عناصر يجولون في الشوارع ويحملون العصي ويضربون أي امرأة او رجل عليه أي إشارة لمخالفة التعاليم الوهابية، ونص القرار على منع جيش المطاوعة من التجوّل في الشوارع أو دخول المدن، وحصر عملهم في حراسة المساجد ومراقبة المصلّين، على أن أي تدخّل لهم مع الناس يعرّضهم للعقاب والسجن.
تحالف سياسي - ديني بنكهة غربية
لجأ ابن سلمان إلى ممارسة اللعبة نفسها التي أدّت إلى نشوء المملكة برعاية بريطانية، من خلال إرساء تحالف بين المؤسسة السياسية الحاكمة المتمثلة بآل سعود والمؤسسة الدينية المتمثلة بآل الشيخ المتحدّرة من محمد بن عبد الوهاب، ولكن هذا التحالف يأتي هذه المرة بلبوس جديد يقضي على الوهابية ويستند إلى تشريعات جديدة تضمن له الغطاء "الشرعي"، فلا يفوت ابن سلمان إجراء زيارات علنية لرموز دينية أمثال الشيخ صالح الفوزان، كانت إلى أمد قصير من الصقور، ولكنها اليوم تمنحه البركة في الذهاب بعيداً في الانفتاح نحو الغرب، والمضي قدماً في تحويل بوصلة السعودية إلى أمريكا وأوروبا بشكل كامل.
ابن تيمية الضحية التالية
يدرك ابن سلمان أن مواجهة الهيئة الوهابية دونها مخاطر وعقبات وعواقب، لا سيما أن تجّذر أثر هذه الهيئة في المملكة يعطيها منحة السيطرة على بعض الأجهزة والأفراد، ولا يمكن له اجتثاث تأثيرها في وقت قصير وسريع، ولكنه بات اليوم مع إجراءاته الجديدة يسير بشكل حثيث على طريق الإطاحة بابن تيمية وتعاليمه، ودفن الوهابية التي شكّلت على مدى أجيال عديدة مظلة الحكم في المملكة، وشكلت سلاحاً للإكليروس السعودي.