دعوة » مواقف

الدعاة الجدد وما بعدهم

في 2018/05/09

إبراهيـم غـرايـبة- الحياة السعودية-

رافقت الصحوة الدينية منذ السبعينات والثمانينات ظاهرة الدعاة والخطباء. في الموجة الأولى ظهر دعاة وخطباء مثل عبد الحميد كشك، وأحمد المحلاوي، وأحمد القطان، ويوسف القرضاوي، ويمكن تسمية هذه المجموعة «دعاة المساجد والكاسيت» وجاء معهم أيضاً في هذه الموجة المحاضرون والخطباء في المحافل والمناسبات، كما نهض معهم «المنشدون» وازدهرت في هذا المجال سوق الكاسيت للمحاضرات والخطب والنشيد الإسلامي.

وفي الموجة التسعينية ظهر دعاة الفضائيات حول التدين المجتمعي مثل عمرو خالد، وطارق سويدان، وعايض القرني، والعريفي، واستطاع القرضاوي العبور إلى هذه المرحلة من خلال قناة الجزيرة، في حين اختفى خطباء المساجد والمنشدون والمحاضرون، واختفت أيضاً سوق الكاسيت!

وفي السنوات القليلة الماضية بدأت موجة ثالثة بالظهور حول الاعتدال والتنوير، و«يوتيوب»، مثل عدنان ابراهيم، ومحمد شحرور...

يعتقد البعض أن الدعاة الجدد يرشدون الظاهرة الدينية، وكان الاعتقاد نفسه قائماً منذ السبعينات، دعاة الإخوان في مواجهة التكفير والتطرف، ودعاة المجتمعات في مواجهة الإسلام السياسي، ودعاة التنوير في مواجهة الهوس الديني الشعبي، والحال أنه يعاد إنتاج وتحديث الخواء والتطرف.

لأنه وببساطة إن لم يكن الدين وفهمه وتطبيقه في السياق الاجتماعي الصحيح يظل الخواء والتطرف يعاد إنتاجهما وتحديثهما، فلا يمكن مواجهة التطرف إلا في إصلاح اقتصادي واجتماعي يقوم على الحريات والازدهار، وتتخلى فيه الدولة عن دورها الديني في الأوقاف والتعليم والأسواق والتشريع، فلا فرق بين دور ديني تنويري للدولة وبين دور محافظ أو سلفي. كله فساد واستبداد ووصاية وخواء.

التطرف الديني يعكس أزمة الدولة والمجتمع، ولا تمكن مواجهته إلا بإصلاح هذه الأزمة أو تجاوزها، وليس بمحتوى ديني معتدل تديره السلطة السياسية بمعزل عن أزمتها. وهذه الأزمة مرتبطة أساساً بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تتشكل مع وحول تقنيات وموارد اقتصاد المعرفة والشبكية.

اليوم يصعد الفرد قوةً مؤثرة ومستقلة عن الدولة والمجتمع، وفي ذلك تصعد أيضاً القيم والأفكار الفردية. وبالطبع فإنها تختلف عن القيم الجماعية، وتقتضي بالضرورة صعود فهم وسلوك ديني فردي مستقل عن التراث الديني المرتبط بالدولة والمجتمعات، فما لدينا من أفكار ومؤسسات دينية أنتجتها الدولة الحديثة، وليست سوى «إسلام المطبعة».

بدأت القيم والأفكار والتصورات عن العالم والحياة فردية، ثم طورت في المجتمعات والحضارة الزراعية في منظومة دينية. واليوم ينشئ كل فرد أسلوب حياته الخاص، وتكاد تكون الأسر النووية حضارات مختلفة ومتعددة أو فقاعات نعيش فيها مستقلين، هكذا يصمم كل فرد مستقلاً فهمه الديني (إسلام الإنترنت)، بلا علاقة بالمجتمعات والمؤسسات الدينية والتعليمية.

هكذا أيضاً يزيد تأثير وانتشار القيم الفردية، وتنحسر وتتراجع القيم الاجتماعية، وسوف نحتاج إلى شبكة واسعة ومعقدة ولا نهائية من قيم العلاقات والأفكار القائمة على معرفة واحتياجات شخصية وفردية. وفي ذلك يجب أن يرد الدين إلى الفرد، بما يعني ذلك الاستجابة الصحيحة لمرحلة الشبكية.

الخلاف مع الدعاة الجدد وما بعد الجدد ليس في المحتوى الذي يقدمونه، لكن في مواصلة التنميط والتنظيم للتدين، فلا فرق في فساد هذه العمليات سواء كان هذا التنظيم تنويرياً أو محافظاً أو متطرفاً أو قل ما شئت من الاتجاهات والأفكار.

لم يعد اليوم مهماً أو مجدياً أن يقال أو أن يكون بالفعل الدين مع أو ضد الديموقراطية والاعتدال والتطرف والكراهية، ولم يعد يختلف عن التطرف والكراهية أن يحشد الدين لأجل الاعتدال والتسامح، فلم يعد الدين في هذه المرحلة أداة سياسية أو اجتماعية في النهضة أو التخلف.

لكنه قضية فردية خالصة تلهم المجتمعات بمقدار ما يؤثر فيها الأفراد بما هم فاعلون اجتماعيون.