دعوة » مواقف

السعودية وإسلامية الدولة

في 2018/11/05

محمد السعيدي- الوطن السعودية-

من آثار الجناية الإعلامية على صورة المملكة، إنني أقابل بعض العرب والمسلمين خارج المملكة وأُفاجأ بأن من أوائل ما يسألونني عنه: هل أصبحت السعودية علمانية؟.
وحينما أستفسر عن سبب هذا الانطباع أجد أن الإعلام بشقيه الموالي للدولة والمعادي لها ذو أثر في تكوينه.
وكنت أجيب أولئك المتسائلين بأن هذا من الترويج المغرض وغير العادل، بل والمأجور الخبيث، ولا أبالي بأن أصفه بالخبيث، وإن ارتفعت مكانة بعض القائمين عليه في علمهم أو مقامهم، لأنه لا يهدف إلى الإصلاح أو النصيحة، بل يهدف إلى الإفساد ومزيد من الشقاق بين الدولة ومواطنيها، وبين الدولة وعموم المسلمين، يرومون خائبين -إن شاء الله- أن ينتهي إلى زوالها وإشاعة الفتن بين أهلها وفي شعابها، وكل ذلك منهم ظلمًا وعدوانا وحسدا من عند أنفسهم {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54].
وشاهدي على ذلك: النظر في حالهم قبل أن يحدث في بلادنا هذا الانفتاح الذي يتحدثون عنه، هل كانوا يحمدونها ويُشِيدون بها ويشدون من أزرها؟
الجواب: لا، بل كانوا خصوما لها مُشَوِّهِين لسمعتها، ناقمين عليها بدرجات مختلفة.
حقًّا لا يمكن الحكم عليهم بحكم واحد، فليسوا سواء، فمنهم الغر المخدوع، ومنهم الخبيث الخادع، لكنهم يشتركون في أنهم لم يكونوا حامدين لدولتنا ما كانت عليه مما يزعمون اليوم أنها تنحو نحو العلمانية بتفريطها فيه، بل ذامين لها مُكثرين من الكذب والتأليب عليها، مواجهين محاسنها بالشك فيها والانتقاص منها.
 
مكمن الخطأ عند النخب الإسلامية
لقد كانت مواجهة الدولة الدائمة بالشك والانتقاص من قِبَل النخب الإسلامية في الخارج والداخل سببا لردة فعل طبيعية عند متخذ القرار جعلته يعتمد بشكل أكبر على التيار الليبرالي، لِمَا أثبته المنتسبون لهذا الفكر من مرونة وقدرة أكبر على فهم الدولة واحتياجاتها، على عكس ما كان عليه المكون الإسلامي النخبوي الذي غلب عليه الطابع الحركي، حيث لم يستطع أن يكون متفهمًا ولا واقعيًّا، وكان هو الناقد والمشكك الأكبر في الدولة رغم كل ما قدمته وتقدمه للإسلام والمسلمين في الداخل والخارج.
كيف ومتى نحكم على نظام دولة ما بكونه إسلاميا أم علمانيا؟
إن الحكم على نظام دولة ما بكونه إسلاميا أم مسيحيا أم ثيوقراطيا أم علمانيا أم اشتراكيا، يتكون غالبا من مجموعة من الأمور وليس من أمر واحد، فيُنْظر كي نُصدِر هذا الحكم إلى الأصول الفكرية لنشأة هذه الدولة، وإلى مصادر أنظمتها وإلى ممارساتها في تطبيق هذه الأنظمة وإلى دستورها أو ما يقوم مقام الدستور في نظامها.
وحين نقصر النظر على عدد من الممارسات ونجعلها معيارا للحكم على تلك الدولة فإننا نخطئ كثيرا خطأ يصل إلى حد الجناية على هذه الدولة.
فحين تعلن فرنسا عن نفسها دولة علمانية فلا يصح لنا أن نطعن في ذلك بحجة إحصائنا عشر أو عشرين مخالفة للعلمانية تُقِرها الدولة الفرنسية، كإقرار أجراس الكنائس مع منع الأذان والمنائر، ومنع الرموز الدينية -كما يسمونها- كالحجاب مع الإذن بالقبعة اليهودية والعمامة السيخية، وكون القانون الفرنسي المُحَدَّث عن قانون نابليون الأول قد استفاد كثيرا من الفقه المالكي.
والمملكة المتحدة التي تعلن عن نفسها دولة ديمقراطية، ولا يصح منازعتها هذه الصفة لمخالفتها أصول الديمقراطية في عدد من القضايا، ككون النظام ملكيا دستوريا، وكون نصف أعضاء مجلس اللوردات يأخذون مقاعدهم بالوراثة، وأن التراب البريطاني ملك للملك -الملكة حاليًّا-، وأن ملك بريطانيا هو رأس الكنيسة الإنجليكانية وجعل الصليب ضمن مادة علم الدولة.
فلا يُمكن لأجل ذلك أن ننكر كون فرنسا دولة علمانية، ونقطع النظر عن الدستور الفرنسي وأصول نشأة الجمهوريات الفرنسية الأربع، والأنظمة العدلية والمدنية ومصادرها، وكذلك سائر ممارسات الدولة، فنحن إذا نظرنا لمجموع ذلك لن يسعنا إلا الجزم بعلمانية فرنسا، أما الممارسات العشر أو العشرون والمخالفة للعلمانية، فلا يصح من أجلها إنكار كون فرنسا علمانية، لأن تلك الممارسات منها ما قد يكون ناشئا عن تفسير آخر للعلمانية، ومنها ما قد تفرضه ظروف سياسية واجتماعية وإقليمية لا يَسَع المُنَظِّم إلا أن يكون مرنا معها ولو اضطره ذلك إلى مخالفة جزئية وقد تكون غير دائمة لدستور الدولة، وإما أن تكون أخطاء منها ما هو مقصود ومنها ما هو غير مقصود، وقل مثل ذلك في المملكة المتحدة.
وعليه يمكن فهم هذا الاختلاف بين طبيعة الدولة وبين بعض الممارسات التنظيمية.
وهذا الذي ذكرناه عن فرنسا وبريطانيا يمكن تطبيقه على كل بلاد الدنيا، ومنها بلادنا وموضوع مقالنا المملكة العربية السعودية.
فما يصوره البعض على أنه مخالف للفقه الإسلامي في السعودية يُفَسَّر قطعا على أن منه ما هو أخطاء مقصودة أو غير مقصودة، وهذه لا شك أنها لن تبقى وسوف تتم معالجتها حين يقف المخلصون متضامنين مع دولتهم، مقدمين نصيحة المحب ورأي الخبير وحكمة المشفق.
ومنها ما فرضته ظروف سياسية عالمية واجتماعية محلية رأى المنظم أن اللين معها خير من مغبة الانكسار في مواجهتها، مجتهدا في ذلك اجتهادا معرضا هو فيه للصواب والخطأ، وهذه الممارسات سيزول معظمها بزوال بواعثه.
ومنها ما هو اختيار لرأي فقهي يبقى في نهاية أحواله رأيا فقهيا، سواء اختلفنا معه أم اتفقنا.
هذا ما أراه مقتضى الإنصاف والعدل والقول بالحسنى، بل وهذا الفهم هو ما يتطلبه قصد الإصلاح الحق.
أما نسيان كل شيء وتجاهله والإصرار على تضخيم تلك الممارسات ونسف إسلامية الدولة ووصفها بالعلمانية أو التغريبية أو الليبرالية من أجلها، فهذا -ولا شك عندي- من الظلم العظيم والإفك المبين الذي لا ينتحله مأمور بالعدل والقصد في الرأي والقول والعمل.
وبيان ذلك: أن الشريعة الإسلامية هي مجموعة من الأوامر والنواهي والمباحات في العقائد والعبادات والمعاملات وفي القضاء والتربية والسياسة والأخلاق، تتعلق بالشيوخ والشبان والصبيان من الذكور والإناث.
فهي واسعة في الخطاب واسعة في المخاطبين، لذلك لا يمكن أن نقول: إن من قَصَّر في تطبيقها في باب من الأبواب أو مجموعة من المسائل المتفرقة يعتبر تاركا لها مستبدلا بها غيرها، فهذا من الظلم والجور في الحكم، سواء أكان هذا المُقَصِّر معذورا في تقصيره أم لا.

 خطورة إطلاق الأوصاف دون النظر في البواعث والمسببات
إن المبادرة بوصف المملكة العربية السعودية بالعلمانية أو الاتجاه نحو العلمانية لوجود بعض المخالفات الشرعية أو اختيار فتاوى مخالفة للفتوى السائدة دون النظر لبواعث هذه المخالفة أو مسببات اختيار الفتوى المغايرة، وتغليب ذلك على كل شيء في الدولة ينطق بإسلاميتها، من أصل نشأتها وعصبيتها التي قامت عليها والنظام الأساسي للحكم في الدولة والنظام القضائي والتجاري والتعليمي، ونظام الدعوة في الداخل والخارج، ونظام الإغاثة العالمية ومشاريعها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنظام الاجتماعي العام، إلى غير ذلك من الخير الذي لا يكاد يوجد كثير منه في بلاد غيرها.

منهج الخوارج في قالب معاصر
إن إغفال كل ذلك من أجل حفل غنائي هنا أو هناك أو أخطاء في تنسيق وإعداد مشاريع ترفيهية، أو اعتبار فتاوى كانت سابقا غير معتبرة، ثم وصم الدولة بكل ما فيها بالعلمانية، أو المتجهة نحو العلمانية، هو توجه خارجي ولكن بتعبيرات حديثة.
فالخوارج الأولون ومن تبعهم في العصر الحاضر يصفون الدول بالكفر والردة، وهؤلاء يصفون الدولة السعودية لمثل هذه المخالفات بكونها علمانية، أو سائرة في طريق العلمانية، وهم في أدبياتهم يحكمون على العلمانية بكونها كُفْرًا، فمآل قولهم هو تكفير الدولة والقول بردتها، ولكن بعبارة لا توقعهم في حرج أمام المجتمع الدولي، وإن كانت توصل رسالة التكفير إلى بقية المسلمين.

  الجناية على التاريخ
إن اعتبار مثل هذه المخالفات ناقلا للدولة من الإسلامية إلى العلمانية سوف يُحقق جناية تاريخية أيضا، فهو يعني أن التاريخ الإسلامي خالٍ من أي دولة إسلامية، بل هي بهذا المقياس علمانية أو متجهة نحو العلمانية.
فدولة هارون الرشيد -رحمه الله- الذي كان يحج عاما ويغزو عاما، كانت كما تنقل كتب التراجم وكتب الأخبار تُشرب فيها الخمر وتقام فيها حفلات الغناء، واشتهر فيها كبار الموسيقيين، كإبراهيم الموصلي وولده إسحاق وإبراهيم بن المهدي وزرياب.
ودولة ولديه المأمون والمعتصم فعِل فيها ذلك، وسُجِن فيها العلماء والصالحون ونودي فيها بالبدعة.
ولا تكاد تجد دولة في التاريخ الإسلامي سلمت من الكبائر والصغائر، ولم يقل بتكفيرها أو أنها دُول غير إسلامية إلا الخوارج.
 
موقف أئمة الإسلام مع الخلفاء والسلاطين
وقد قام ثقات أئمة الإسلام مع هؤلاء الخلفاء والسلاطين بالمعروف، ويكفي أن ننظر إلى موقف ابن تيمية -رحمه الله- من سلاطين عصره، وكان منهم من يتعاطى المنكر ويقره، وكانوا يأمرون بالبدعة ويسجنون من ينهى عنها، ومع ذلك أمر بطاعتهم بالمعروف ونهى عن الخروج عليهم وجاهد تحت راياتهم.
وليست رسالتي هنا التهوين من أي منكر أو دعوة أي مسؤول إلى الجرأة عليه، لكنني أحذر من منكر أعظم، وهو التكفير المبطن، والدعوة غير المباشرة إلى الخروج على الدولة وإشاعة البغضاء والكراهية ضدها، الأمر الذي لا يخدم إلا أعداء الأمة، ولا يؤول إلا لما هو أعظم شرًّا.