خالد العضاض- الوطن السعودية-
حاولت الحكومة السعودية إعطاء فرصة وفتح مجال لمن أراد من الصحويين العودة إلى الاعتدال، فراجت الموجة الجديدة الدعوية، أو ما يمكن أن يطلق عليها الدعاة الجدد حتى قيام الجماعة السلفية المحتسبة بحادثتها الشهيرة في الحرم المكي الشريف، في عام 1979، لم يكن للصحوة بمختلف أطيافها أي ظهور أو تأثير يذكر، ما عدا اضطلاع بعض أفراد من جماعة الإخوان المسلمين من غير السعوديين بمهمة تأليف المناهج الدراسية، وشغل مهام إدارية مفصلية في بعض الوزارات، وقيام بقية التنظيمات والخلايا على احتواء طلاب المعاهد والجامعات القليلة حينها، والعمل على انضمامهم للمجموعات التنظيمية والحركية، وهو عمل تربوي يحتاج إلى مدى زمني طويل لا تظهر نتائجه إلا بعد سنوات طويلة، غير أن ما قامت به الجماعة السلفية المحتسبة في الحرم المكي الشريف جعلت الموازين تتغير وتختلف، وهو الأمر الذي حدا بالدولة إلى أن تفسح المجال للمناشط الدعوية التي يُظن أنها سلمية وبعيدة عن السياسة، درءا لخطر الإرهاب والتطرف الذي أطل برأسه مع حركة الجماعة السلفية المحتسبة.
ويمكن تحديد مستويات تطور الصحوة بشكل عملي من خلال الفترات أو الحقب الزمنية الآتية:
الحقبة الأولى/ 1979 - 1989:
بدأت الدولة العمل على تجاوز معضلة العنف المتطرف الذي حدث من الجماعة السلفية المحتسبة بقيادة جهيمان، من خلال كبار العلماء في البلد المعروفين بولائهم وتوجههم السليم، ومن خلال بعض الملتفين حول هؤلاء العلماء من أفراد هذه التنظيمات والخلايا، فحدثت تغيرات كبيرة في وجه البلد، من خلال المناشط التربوية والدعوية التي قامت بها الصحوة بمختلف أطيافها، حتى جاء عام 1987 وهو العام الذي انطلقت به ما يسمى انتفاضة الحجارة في فلسطين، وهو الانطلاقة الفعلية أو التنفيذية للصحوة بشكل عام في العالم الإسلامي، ومنها السعودية، والتي ظهرت للساحة من خلال المعركة مع الحداثة.
استخدمت الصحوة خلال هذه المواجهة أدوات جديدة في مواجهة الخصوم والمخالفين، فمن خلال استقطاب تعاطف كبار العلماء في السعودية، إلى استخدام منابر الجمع، والمساجد، إلى الوسيلة سريعة الانتشار في ذلك الوقت أشرطة التسجيل (الكاسيت)، وغيرها من وسائل الضغط، تم تجييش غالبية المجتمع في جبهة واحدة ضد الحداثة والحداثيين، مما أشعر الحداثيين بالعزلة بين أقاربهم وجيرانهم وأهل بلدهم، هذه المعركة الضارية التي شنتها الصحوة، تعد أول تحول واضح وتطور مهم في عمل وحركة الصحوة بمختلف أطيافها.
الحقبة الثانية/ 1990 - 1994:
في بداية التسعينيات الميلادية، كانت حرب الخليج الثانية حدثا مفصليا بالغ الأهمية، إذ أبرز المعارضة الصحوية الكامنة، في تطور جديد ومهم في مسيرة الصحوة السعودية، حيث إنه لم يكن متوقعا للمراقب، بزوغ المعارضة السياسية لقيادات الصحوة، من خلال معارضة الحل الحكومي لأزمة الخليج الثانية، والذي تمثل بالاستعانة بقوات الدول غير المسلمة.
أدى الاحتكاك بين الأمن السعودي والصحويين، إلى خلخلة صفوف الصحوة، وتمهيد الطريق إلى بداية تفتتها وتشظيها، فبعد الفراغ من حرب الخليج تفرغت الحكومة السعودية لتشغيبات الصحوة السياسية التي بدأت مع الحرب، وتحديدا مع مسألة الاستعانة بالقوات الأجنبية، حيث كان الحديث حول الممنوع السياسي واسعا، تجاوز الخطوط الحمراء بمسافات بعيدة، مما جعل الحكومة تعطي وبطريقة غير مباشرة، الفرصة للحوار، وفتح خط الرجعة لقيادات الصحوة، فظل التجاذب بين الحكومة ورموز الصحوة سنتين أو ثلاث سنوات، حتى جاء الوقت الذي وجدت الحكومة نفسها أمام خيار واحد لإطفاء تلك المشاغبات السياسية، وهو إيقاف القيادات الصحوية ومجموعة من الأتباع.
الحقبة الثالثة/ 1995 - 1999:
ابتعاد كثير من قيادات الصحوة غير الظاهرين، عن الأضواء، مكَّن للصحوة القيام على لملمة شعثها وترتيب صفوفها، خصوصا إذا علمنا أن جل الإيقافات كانت للقيادات السرورية، وقليل من القيادات الإخوانية، والتي وحدها العمل في أزمة الخليج لمواجهة ما رأوا أنه منكر يجب دفعه ومقاومته، وفي هذه الفترة نشطت الصحوة في طور جديد مهم مكَّن لها ارتياد مساحات واسعة، من خلال العمل في مجالات التدريب والتعليم، وتوسيع النشاط في العمل الإغاثي والخيري والتطوعي، وتوسيع دائرة الاتصال الخارجي بمختلف دوائره الخليجية والعربية والإسلامية والعالمية، وهو الأمر الذي أتاحه العمل التربوي للأفراد والمجتمع من الستينيات الميلادية، وحتى أيام تلك الفترة.
في هذه الفترة لم يقف الحد بالصحوة عند الانكفاء على الذات ومواصلة العمل مع أخذ الحيطة والحذر وتغيير الإستراتيجيات فحسب، بل كان الانفتاح الإعلامي المتصاعد، وتعامل الحكومة الصارم مع كل تطرف أو إرهاب أو إثارة سياسية، إضافة إلى تأثير الحركات والجماعات المختلفة في الطيف الإسلامي خارج البلد، كان من المتوقع أن يخرج من تحت عباءة الصحوة رؤية مغايرة لقضية وفكرة الحل الإسلامي، التي ينادي بها كل إسلامي، فنتج عن صراع الأفكار هذا أثر مدمر على الصحوة، وذلك بتخلي كثير من الأتباع عن منهج الصحوة، سواء بالانتقال إلى الضفة المضادة، أو الوقوف على الحياد في أقل الأحوال، وعلى الطرف الآخر، قابل ذلك ردة فعل عنيفة من الصحوة تجاه بعض أبنائها الذين غردوا خارج السرب.
الحقبة الرابعة/ 2000 - 2010:
جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بعد ذلك، وقلبت العالم رأسا على عقب، فأضحت الحرب الأميركية على الإرهاب من أبرز ملامح العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأثرت بشكل مباشر وكبير على الوضع السياسي والأمني في السعودية، وبالتالي أثرت على الوضع الاجتماعي والثقافي في البلد بشكل مباشر ومقصود.
قبلها بقليل كان إطلاق سراح الموقوفين من رموز الصحوة من السجن، والذي ظهر جليا بعد سنوات قليلة من خروجهم، أن فترة الإيقاف كانت فرصة للمراجعة وإعادة ترتيب الأوراق والأدوار ومراجعة الفترة السابقة، وهذا لا يعني بالضرورة أمرا إيجابيا على الصحوة، بل ظهر أنه مع وجود هذه المراجعات وجود الخلافات والفرقة الحادة كذلك.
حاولت الحكومة السعودية إعطاء فرصة وفتح مجال لمن أراد من الصحويين العودة إلى الاعتدال، فراجت الموجة الجديدة الدعوية، أو ما يمكن أن يطلق عليها الدعاة الجدد، والذين كان غالبيتهم من الرموز الصحوية السعودية.
الجهود الاستثنائية للجهات المسؤولة داخل الدولة في محاربة الإرهاب، ومحاصرة أفكاره، بالإضافة إلى جهود بعض المثقفين -بعضهم كان صحويا بطريقة ما- أسهمت في مراجعة نقدية صارمة وحازمة، للخطاب والفعل الديني الحركي بشكل عام، وهذا أدى إلى تراجعات كبيرة، وحادة في خصائص وأركان الخطاب الصحوي، حيث اكتسب صفة المهادنة والسعي إلى المناطق الرمادية، والخروج من مآزق الأسئلة، شذَّ عن ذلك بعض الأصوات التي حاولت البقاء على النمط القديم ذاته، ولو بالعموم والشكل.
تميزت هذه الفترة بمحاولة تعاون رموز الصحوة مع بعضها البعض على الرغم من تمايز المناهج الحركية بينهم، بل تطور الأمر إلى التعاون مع كافة الأطياف الفكرية، بمن فيهم من كفروا توجهاتهم في فترة سابقة، كما تميزت هذه الفترة بالخطابات والبيانات المشتركة، وكل هذا دلالة على أن النفس الحركي بقي وتطور وتمدد مع الرموز والأتباع ولم تنقض مرحلة العمل.
الحقبة الخامسة/ 2011، أحداث الربيع العربي وما بعده:
في هذه الفترة، وهي فترة ما يطلق عليه الربيع العربي، نشط بعض الرموز الصحوية مرة أخرى للمعارضة، وتمثلت هذه الفترة بعدة تطورات من أهمها على الإطلاق وصول الإخوان المسلمين في مصر إلى رئاسة الدولة، وكشف تعمد دولة قطر تمويل الإرهاب والربيع العربي، وفي هذه الفترة تم وضع جماعة الإخوان المسلمين وكثير من أتباعها والمتعاطفين معها على مستوى الأفراد والجماعات والجمعيات والمؤسسات، على قوائم الإرهاب والحظر.